تاريخ شركة فسفاط قفصة من تسعينات القرن الماضي الى نهاية سنة 2020
يشكل موضوع الفساد في شركة فسفاط قفصة حديث الرأي العام بالجهة ، ذلك أن الفساد في هذه الشركة اتخذ طابعا هيكليا مكن المسؤولين طوال عقود من تبديد أموال طائلة ذهبت إلى جيوبهم أو إلى جيوب بطانتهم أو إلى تمويل الحزب المنحل وتمكين أتباعه و مسؤولية من امتيازات لا تحصى و لا تعد
و الغريب أن يد المحاسبة لم تمتد لحد الآن إلى هذه الشركة رغم وجود دلائل و قرائن عديدة يمكن أن تشكل خيط البداية لمساءلة هؤلاء المسولين و محاسبتهم.
ونرغب في البداية أن نوضح بعض الحقائق القاعدية التي يجب أن تكون معلومة
و مبينة حتى يتسنى لنا و لكل المهتمين بهذا الملف، التحليل الموضوعي و استخلاص النتائج و المعطيات.
1 ) يعتبر قطاع الفسفاط قطاعا تنافسيا بامتياز و يشهد ثمن بيع الفسفاط تقلبات دورية نتيجة المتغيرات العالمية المؤثرة فيه كأثمان الطاقة ، و ركود الاقتصاد العالمي، و مبادئ العرض و الطلب
2) إن من مقاصد الهيكلة التي عاشتها الشركة تدعيم قدرتها التنافسية و الضغط على الكلفة إلا أن عند تطبيقها برزت عدة انحرافات و خروقات كان من أولى ضحاياها العمال المسرحون في إطار التقاعد المبكر من خلال حرمانهم من منحة مكافئة نهاية الخدمة اسوة بإخوانهم في بقية المؤسسات الوطنية ، و ظهور المناولة للقيام بأنشطة تخلت عنها المؤسسة ، بدون أي مبررات تقتصادية ، كنقل الفسفاط (الخام و المبلل والبواقي أو الشوائب) و الحراسة و صيانة المباني
الفترة الممتدة بين 1991 و 2001 أو عهد السيد رافع دخيل
تعتبر هذه الفترة من أطول الفترات التي بقي فيها نفس الرئيس المدير العام على رأس شركة فسفاط قفصة إذ كان معدل عمر الإدارات العامة لا يتعدى الثلاث أو أربع سنوات إذا استثنينا بعض الحالات الشاذة التي لم يتعد عمرها السنة أو السنتين .ويعتبر هذا الرئيس المدير العام نفسه المنقذ للشركة و أنه عين من طرف الرئيس المخلوع لهذه المهمة، و كان سياسيا وتجمعيا استعمل كل الوسائل الممكنة و المتاحة ، الشرعية و الغير شرعية للتقرب من مصادر القرار بالدولة و المتمثلة في الرئيس المخلوع و أصهاره .
و على هذا الأساس ، عمل على التسييس المنظم للشركة التي لم يكن من تقاليدها هذا الأسلوب في العمل ، فوقع انتداب مجموعات من إطارات التجمع و أقربائهم و باختصاصات لا تمت لأنشطة الشركة بأي صلة .
وقد برز خلال هذه الفترة أيضا أحد مديري الأقاليم و المدعو عبد الحفيظ النصيري الذي تأقلم مع ميولات الرئيس المدير العام الجديد فأنقلب على مرؤوسيه السابقين الذين كان يقدسهم إلى درجة تسمية ابنه البكر باسم الرئيس المدير العام في تلك الفترة
وقد عمل هذا الثنائي بتناغم كبير و تنسيق شامل و أصبحت الفرصة سانحة أمام النصيري ليتبوأ بقرارات استثنائية مناصب هامة كتسميته مديرا للشراءات برتبة مدير عام ثم مديرا عاما مساعدا ليصل هذا التنسيق إلى ذروته لنهب ثروات الشركة و إهدار المال العام ,
وبعد رحيل رافع دخيل بقي عبد الحفيظ النصيري في إدارتي السيدين قيس الدالي من 2001 إلى 2006 و السيد رضا التويتي من 2006 إلى 2008 الذين بقيا بكل موضوعية بعيدين عن هذه الأجواء الموبوءة .
و بعد تسمية السيد رضا التويتي وزيرا للتجارة ، أصبحت الظروف سانحة للنصيري ليصبح رئيسا مديرا عاما لمدة خمسة أشهر فقط ليقيله الرئيس المخلوع بعد أحداث مدينة الرديف و موجة الاحتجاجات التي شهدها الحوض المنجمي في تلك الفترة نتيجة تزييف عملية الانتداب التي كان قام بها.
ولم يدع هذه الفرصة تمر إذ عمد إلى صرف 120 ألف دينار لحسابه كبديل لعطلاته الغير مستهلكة رغم أنه كان كبقية المهندسين يتمتع بعطله السنوية.
الملفات الأساسية للفساد بشركة فسفاط قفصة
1 ) ملف مناولة نقل الفسفاط
يتراوح المبلغ المرصود لهذا النشاط بين 23 و 25 مليون دينار سنويا تتوزع على شركات مناولة دخلت الميدان في هذه الحقبة و في إطار المناورات المتداولة في تلك الفترة و الزاعمة أن هذا النشاط ليس من المهام الأساسية للشركة و أن عدد الآليات اللازمة و أحجامها تفوق إمكانيات الشركة و يصعب السيطرة على أدائها.
و تعتبر الشركات التالية من أهم شركات المناولة
1 – شركة قوادرية
2- شركة عبد العزيز بن العربي
3- شركة لطفي علية
4- شركة أسطى علي
5- شركة لعماري
هذا بالإضافة إلى عدد من المناولين الصغار الذين كانوا ينشطون في مجال التحميل.
و تجدر الإشارة إلى أن جل هذه الشركات كانت تحت حماية رجال من السلطة من أقارب الرئيس المخلوع الذين كانوا يحمونها و يدافعون عن حظوظها بشركة فسفاط قفصة مثل قيس بن علي و أصهاره الذين كانوا يحمون مصالح شركة أخرى كان صاحبها عضوا في اللجنة المركزية للتجمع .
و يرتكز مجال النهب في هذا النشاط ، على كيفية اقتسام المحاور و التلاعب بالأثمان المقدرة والمطبقة في العقود و التي تفوق دائما الإثمان الحقيقية مثل الصفقة التي ابرمها عبد الحفيظ النصيري مع لطفي علية و التي طبق فيها ثمن 25 مليم/كم/طن عوض عن 13 مليم/كم/طن عند اجراء عرض عام.
ومن غرائب الأمور أن تكون كل هذه الممارسات بعلم متفقد الدولة المعين في تلك الفترة و المدعو البكاكري الذي وقع تمكينه من تنظيم الدروس التكوينية لإطارات شركة فسفاط في كيفية إعداد كراسات الشروط ، و إعداد عمليات الفرز في دورات متعاقبة تعد بصورة استعاجالية و بتدخل مباشر من عبد الحفيظ النصيري .
2) مناولة الحراسة
انطلق هذا النشاط في حدود سنة 1994 و كان الباعث و الحامي لهذا المشروع عمارة عباسي الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل و بمساعدة أحد النقابيين القدامى ابراهيم هوشاتي يعتبر هذا المشروع هدية من الإدارة العامة لمن آزرها في عملية الهيكلة وتمرير عملية التقاعد المبكر دون منح نهاية الخدمة للعمال المسرحين .
و يسند هذا النشاط مباشرة لشركة الحراسة و الخدمات التي كان أجر العامل فيها أقل من الأجر الأدنى القانوني و لم يتغير إلا بعد تدخل السيد قيس الدالي بعد رجوعه على رأس الشركة في 2001 ، و تطور رقم معاملات شركة الحراسة و الخدمات ليصل إلى حدود 3 مليون دينار مع العلم أن البنية الأساسية و الاتصالات و نقل الأعوان واستهلاك الكهرباء كلها على حساب شركة فسفاط قفصة
3 ) ميزانية الشؤون الاجتماعية بشركة فسفاط قفصة
شهدت هذه الميزانية نموا متواصلا لافتا في هذه الحقبة و يرجع السبب الأساسي في هذا النمو ، ليس إلى الرغبة في خدمة العمال و المنتسبين للشركة و محيطها الاجتماعي بقدر ما كانت مصدرا للنهب وتبديد المال العام و شراء الذمم.
وقد بلغت هذه الميزانية حوالي 5 ملايين دينار أول التسعينات لتصل إلى 8 ملايين دينار
و إذا اعتبرنا أن معدل هذه الميزانية هو 6 ملايين دينار سنويا، فان المبلغ المرصود لها خلال 18 سنة أي من 1991 إلى 2008 يكون بكل موضوعية في حدود 108 ملايين دينار كانت كلها تصرف بأمر من المدير العام المساعد.
و إذا سلمنا أن نصفها صرف على منتسبي الشركة ( أعوانا و متقاعدين و أرامل …) فان النصف الباقي و المقدر ب 54 مليون دينار كان عرضة للنهب و التلاعب دون رقابة و دون محاسبة.
و من أهم المستفيدين من هذا القسط من الميزانية سنويا
_ ا لا تحاد الجهوي للشغل 120 ألف دينار
_ جامعة خبايا الأرض 50 ألف دينا ر
_ التجمع الدستوري الديمقراطي بحدود 300 ألف دينار
_ الولاية 300 ألف دينار
_ المعتمديات في الحوض المنجمي والولاية 150 ألف دينار
_ الجمعيات الرياضية 1 مليون دينار
ومن الممارسات التي يعرفها الكثيرون، اعتماد المتصرف في هذه الميزانية على زبانية كانوا يساعدونه في إيجاد مبررات الصرف بالمطالب المزيفة و إعداد الفواتير التي تضفي على كل هذه العمليات الصبغة القانونية و الإجرائية,
و من النوادر المتداولة بالمتلوي عن ممارسات النصيري أنه كان يصدر شيكات باسمه بمبالغ هامة كتبرعات بمناسبة المحطات الهامة للحزب الحاكم و المنظمات و اللجان و الشعب خدمة لأغراضه الشخصية و يسترجعها فيما بعد من أموال الشركة و بواسطة فواتير مزيفة لمواد يصعب متابعتها عن طريق الشراءات المباشرة.
4 ) لجنة البناءات
من المهام الظاهرة لهذه اللجنة ، صيانة المباني الإدارية في مختلف المدن المنجمية و انجاز المشاريع الكبيرة نسبيا كقاعات الاجتماعات و نوادي الإطارات و الموظفين .
غير أنها في واقع الأمر مصدر آخر لنهب المال العام بما يمثله صعوبة مراقبة المواد و العناصر التي تتصرف فيها هاته اللجنة كالحديد و الاسمنت و الآجر و مواد الدهن و التبليط .
و كان يشرف عليها مباشرة و يدير اجتماعاتها الدورية المدير العام المساعد.
و لا يفوتنا في هذا المجال أن نذكر قصة فيلا المروج التي اتفق المدير العام المساعد بالتنسيق مع الكاتب العام لجامعة خبايا الأرض على تأجيرها لحساب الجامعة لغرض استعمالها كدار استراحة لعمال المناجم على غرار الدار الموجودة بصفا قس ( لاحظوا الغرض النبيل الذي يحجب النهب المنظم) و اتفقا على أن يكتما ملكيتها للنصيري.
و تشاء الصدف أن تكون هذه الفيلا غير مكتملة البناء و نظرا للحاجة الملحة و رغبة في ” تلبية مطلب جامعة خبايا الأرض المستعجل و خدمة لأعوان الشركة ” تدخل المدير العام المساعد لدى مصالح البناء بالشركة و أمرهم بإرسال فريق متكامل من عدة اختصاصات لانجاز الأعمال المتبقية على أساس اتفاق مبرم مع الوكيل العقاري .
و تشاء الصدف كذلك أن تطول مدة التدخل لهذا الفريق نظرا لأهمية الأشغال المنجزة و تتزامن مع آجال توزيع فواتير استهلاك الماء ليكتشف أحد العمال عند استلامه لهذه الفاتورة ، أن ملكية الفيلا تعود إلى المدير العام المساعد و سرعان ما انتشر الخبر بالحوض المنجمي و سرعان ما وقع الالتفاف على العملية و بتدخل مباشر من المرحوم رضا التويتي الرئيس المدير العام في نلك الفترة وقع التخلي عن هذه الفيلا لكن مالكها استفاد من كل الأعمال المنجزة بما فيها التأثيث الذي بلغ 50 ألف دينار و الذي لم يعرف مصيره بعد الحادثة
5) المساعدات المباشرة
تسدى هذه المساعدات دوريا الى أشخاص معروفين كان يعتمد عليهم المدير العام المساعد في الدعاية له و تلميع صورته في الحوض المنجمي و على صعيد الولاية . و من بين هؤلاء نذكر
_ معتمدي الحوض المنجمي
_الجامعات الترابية و المهنية
_ العمد بمدينة المتلوي خاصة
_ بلديات الحوض المنجمي لإسكاتهم و إبعادهم عن مطالب المتساكنين
_ بعض الأعضاء من النقابات الأساسية بالحوض المنجمي
_رجال دين و أئمة معروفون
وكان يستغيث بهم كلما ألم به خطر محدق و ذلك بإرسال برقيات تمجد خصاله و تساند بقاءه في هذا المنصب معلنين أنه ” الرجل المناسب في المكان المناسب”
إن تقديمنا لهذا الملف يعتبر دعوة الى فتح ملف الفساد في شركة قفصة و دعوة في نفس الوقت إلى مزيد إحكام التصرف و تطوير أجهزة المراقبة و المحاسبة و تفعيل دورها بكل مهنية و شفافية حتى تقطع مع التواطؤ المعهود في إدارة التدقيق التي كان يشرف عليها السيد عمر جباري الذي لم يشر لا من قريب و لا من بعيد لهذه التجاوزات و كان يصادق بدون تحفظ على كل التقارير و المحاضر ، و من غرائب الأمور أن يعين بعد الثورة واليا على المهدية و يحرز على ثقة مناضليها و أحرارها.
و ندعو الإدارة العامة لشركة فسفاط قفصة أن تعد خطة متكاملة بالتشاور مع مكونات المجتمع الفاعلة و ذوي الاختصاص للنهوض بالحوض المنجمي و بمدن ولاية قفصة لتمكينها من استحقاقاتها في عملية التنمية الوطنية .
المهندس ابراهيم بنصر