القلق المدرسي . . . هل لاينتهي ؟ ولماذا الانقطاع عن الدراسة؟

شارك اصدقائك الفايسبوكيين

بقلم :عبد اللطيف بن سالم

هوبحث في إطارين اثنين :الإطار العام الذي هو القلق الذي انتابنا منذ سنين بعيدة حول المنظومة التربوية والتعليمية بكاملهاوالإطار الخاص الذي هو الانقطاع عن الدراسة.

ولنبدأبالموضع الخاص أولا : لماذا الانقطاع عن الذراسة ؟ لأنه في الحقيقة منضو في اللإطار العام ولا يوفهم إلا به .
لمعالجة هذا الموضوع الهام لابد أولا وقبل كل شيء من تحديد مدلولاته بواسطة هذا السؤال المركزي :
هل المقصود من الانقطاع عن الدراسة الانقطاعُ الاختياري الذي يمثل عزوفا عن مواصلة الدراسة أم المقصودُ به الانقطاع الاضطراري عن الدراسة لعدم السماح للتلميذ بالتربيع؟
ويبدو أن كلا من النوعين هذين موجود في كل بلد في حالات خاصة وعادية أما إذا تكاثرت في بلد ما بصفة غير عادية فإنها إذن تُصبح ظاهرة اجتماعية غريبة وتحتاج إلى دراسة ومعالجة . ولابد أن تكون الأسباب اجتماعية -نفسية وتاريخية- جغرافية وربما يكون فيها أيضا للعولمة الدور الكبير لكن المهم لدينا الآن هو أن كليهما تعبيرٌ عن الفشل في الدراسة وعند تحليلنا لهذه الأسباب نجد بعضها يعود إلى طالب العلم نفسه وبعضها يعود إلى المعلم وبعضها يعود إلى المنظومة التربوية ذاتها والبعض الآخر إلى المدرسة وإلى هيكلها الإداري .

أما في ما يخص التلميذ أوطالب العلم فلابد من دراسة معمقة لأحوال المجتمع التونسي الذي نشأ فيه إبان هذه الفترة الأخيرة من تاريخنا المعاصر منذ بداية الاستقلال إلى اليوم الحالي وما مر به من هزات وانتفاضات وما كان لذلك كله من تداعيات على شخصيته وعلى الشخصية التونسية بكاملها .

أما في ما يخص المعلم فلابد من دراسة خاصة بوضعيته المادية والمعنوية هو أيضا طيلة هذه المدة ومعرفة أسباب تدهور مردوديته خصوصا في السنوات الأخيرة ومعرفة أسباب اهتمامه بالدروس الخصوصية ودروس التدارك أكثر من اهتمامه بالدروس الرسمية أحيانا وذلك ما كان واحدا من أهم عوامل ضعف المستوى التعليمي في المدة الأخيرة .

وأما في ما يخص المنظومة التربوية والتعليية وهيكلها الإداري فيكفي أن نطلع على التجارب العديدة والمتكررة التي استوردناها من الغرب والتي مورست علينا طيلة هذه الفترة حتى نتفهم ما جرى لها وماذا كانت نتائجها وفي ما إذا كانت مناسبة لنا أم لا والمعروف كما يقول المثل الإنقليزي أن ( القميص الذي يُصنع ليلبسه كل الناس لا يلبسُه أحد ) .

أما في ما يخص المدرسة فإن العديد منها أقل ما يقال فيها أنها قد صارت موحشة والعديد منها قد أصبحت غير لائقة ولا تلبي حاجة التلميذ إلى الشعور بالأمن والراحة وحب العمل .

ضعف الثقة في التعليم العمومي :

من التناقضات العجيبة في تونس اليوم ونحن نشتكي منذ مدة من الفقر والفاقة و قلة ذات اليد ومن التهاب الأسعار بصفة غير مسبوقة ومن ضعف المقدرة الشرائية أننا لا نزال نرى باستمرار ظهورا متجدد ا للمدارس الابتدائية والثانويات والجامعات الخاصة في أغلب مدن الجمهورية والتي هي وإن دلّت على شيء فهي تدل من جهة أولى على أن الكثير من التونسيين بخير وقادرون على تشييد مثل هذه المؤسسات الهامة رغم تكلفتها الباهظة كما تدل من جهة أخرى على أن الكثير من التونسيين قادرون على مزاولة التعلم في المدارس الخاصة هذه رغم ارتفاع تكاليفها. والمهم هنا هو ما تدل عليه ثالثا من أن الناس في تونس قد ضعفت ثقتهم في التعليم العمومي أو الحكومي وذلك لأسباب عديدة لم يُرد المسئولون المتعاقبون على وزارة الإشراف تفهٌمها والعمل على تداركها . أهم هذه الأسباب :
ضعف القيمة الاعتبارية للمعلم منذ مدة طويلة في الابتدائي والثانوي وأحيانا حتى في الجامعي أيضا ( باستثناء المرحلة الأخيرة التي بدأت تتحسن فيها أحوالهم ) وعدم الاهتمام به كما ينبغي من الناحية المادية والمعنوية ما قلل من اعتباره حتى في نفوس التلا ميذ والطلبة خصوصا منذ أن لجأ الكثير منهم إلى خلق هذه الظاهرة المُزرية ظاهرة الدروس الخصوصية ودروس التدارك هذه الظاهرة التي تسببت للتعليم في كثير من الخلل وفي كثير من المشاكل ما شجع على ظهور النزعة المادية الانتهازية لدى الكثير من المدرسين وظهور النزعة الاستغلالية لدى الكثير من التلامذة فضعف المردود من هؤلاء ومن هؤلاء في الآن نفسه ما دمنا قد صرنا نتا جر بالمعلومة ولم تعد المرجعية فيها لا للضمير المهني من طرف المعلم ولا للشعور بضرورة القيام بالواجب من طرف المتعلم .
ولا شك أن ظهور الدروس الخصوصية هذه وحتى دروس التدارك ( المدفوعة الأجر ) لمؤشر واضح عن فشل عملية التعليم والتعلم وقد أفضي هذا الفشل إلى إرادة الفشل واستدامته من كل طرف في هذه العملية من المعلّم ومن المتعلم في الآن نفسه وهذا ما حدث لنا بالفعل منذ مدة طويلة وهو ما من شأنه بالتالي أن يحط من قيمة العملية التربوية – التعليمية بكاملها في نفوس كل من المعلمين والمتعلمين على حد سواء ويصيب نفوسهم باللامبالاة وعدم الاهتمام بها كما كان الأمر في ما مضى وعندئذ يعزف الكثير من التلاميذ عن المواصلة وإذا ما أجبروا على ذلك بتأثير من الأولياء واصلوا فيها دونما الكثير من الرغبة ودونما الكثير من العناية اللازمة ودونما إحساس كاف بالمسئولية إزاءها فيفشلوا بالتالي في هذه الدراسة وينقطعوا عنها بالكامل .
كما أن اكفهرار الأفق وضبابيته في عيون التلاميذ لهو أيضا من العوامل المؤسسة للفشل والانقطاع عن الدراسة ولهذا كانوا غالبا ما يرددون بعضهم لبعض ( تقرأ ولاُ ما تقراش المستقبل ما ثمٌاش ). وفي الحقيقة وفي الواقع أيضا فإن هذه الدروس الخصوصية ما هي إلا تعبير واضح وصريح عن تخلي الإطار التعليمي والتربوي عن القيام بواجبه كما ينبغي وكما هو مطلوب منه من الدولة وإلا لما كنا في حاجة إليها أبدا كما كان حالنا في الماضي. .( وإذا ما اختلف التلاميذ بعضهم عن بعض في مستوى الذكاء وفي مستوى القدرة على الفهم والإدراك فليس علاج ذلك في المدرسة ولا يكون ذلك تعلة للجوء إلى الدروس الخصوصية ) وليست المسئولية عن هذه الحالة المتردية على المعلم وحده وإنما هي أيضا على من فتح له المجال إلى الوقوع في هذه الوضعية الشاذة من وزارة الإشراف ومن المؤسسات التابعة لها وكأنما هي تمهد إلى التنصل من مسئوليتها عن التعليم العمومي والتخلي عنه إلى الخوصصة ، فهل سنكون غدا مثل أمريكا نتاجر حتى بالمعرفة ومن ليس له مال ليس له المقدرة على ممارسة حقه في التعلم ؟ قد يكون هذا التوجه نافعا ومفيدا في مجتمع غني وقوي وصناعي وليس فيه بطالة بمثل هذه النسبة العالية الموجودة في بلداننا العربية وبالأخص منها في بلادنا التونسية .

البرامج التعليمية في تونس المعاصرة

كما أن البرامج التعليمية في تونس المعاصرة ( أو المناهج كما يسمونهافي الشرق العربي ) لم تعد تستجيب في الغالب لحاجة البلد إلى التطور والتقدم في الكثير من المجالات الحيوية الاقتصادية منها والاجتماعية والتكنولوجية ولم تعد تُهيٌئ لمواطن الشغل المطلوبة والضرورية للإنسان التونسي ما جعل التلامذة والأولياء معا غير مبالين كثيرا بالاستمرار في الدراسة إلى حد بعيد ،هذا وأن ضغط الإحساس بالحاجة إلى العمل وبضرورة الانخراط في الحياة الاجتماعية في وقت مبكر ( والعمر اليوم قد صار قصيرا و يمر سريعا )هو ما يدفع بالكثير من الناس إلى التفكير في اختصار مدة الدراسة لربح المزيد من الوقت المخصص للتمتع بالحياة العملية ويظهر هذا النوع من التفكير عادة لدى الطبقات الفقيرة العاجزة حقا عن المواصلة وإذا ما ظهر هذا النوع من التفكير أيضا لدى الأغنياء فمن باب المحاكاة والمنافسة أو من باب الرغبة في الزيادة في الربح والتمتع بمنافع العمل حتى أن الكثير من الناس اليوم في أوروبا قد صاروا يرون المواصلة في الدراسة من باب الرخاء والترف وليس هو في متناول كل الناس في هذا الزمن .

الحلول :

مبدئيا ليس بإمكان المجتمع المدني التونسي في رأيي أن يتقدم بالحلول لهذه المشكلة كما تطالب بعض الجهات التربوية وإنما بإمكانه فقط المشاركة باقتراحاته وتصوراته لأن المسألة لها أبعاد سياسية واجتماعية ونفسية غير محددة فالمطلوب إذن هو أن يجتمع خبراء السياسة مع خبراء الاجتماع و خبراء التربية والبعض من رجال التاريخ مع بعض علماء استشراف المستقبل للحوار والمناقشة ( بعد هذه الاستشارة العامة والحصول منهاعلى ” الكتاب الأبيض” )عساهم يصلون في آخر الأمر إلى ميثاق تربية أو لنقل إلى دستور خاص بالتربية والتعليم يأخذ بعين الاعتبار جميع المطالب التي قامت من أجلها الثورة التونسية مع مراعاة مقتضيات الانتقال الديمقراطي لتونس الجديدة يتفقون حوله و يُعرض على المصادقة من طرف مجلس نواب الشعب ورئيس الجمهورية وإلا يعرضعلى الاستفتاء الشعبي لآن ما يهم التربية والتعليم يهم تونس بأكملها حاضرا ومستقبلا .

القلق المدرسي …هل لا ينتهي ؟

أما الإطار الثاني وهو الإطارالأعم والأهم في هذه الحالة هو ما يمكن تسميته بالقلق المدرسي الذي يعيشه التلاميذ والطلبة وأولياؤهم منذ فجر الاستقلال إلى اليوم حول محتوى ماتقدمه المنظومة التربوية والتعليمية إلى المجتمع التونسي منذ ذلك الوقت إلى اليوم وحول الطرق والمناهج المتبعة فيه .

قد يتساءل البعض منا عما يدعونا إلى إثارة هذا الموضوع بالذات في هذا الوقت بالذات و هو تساؤل في منتهى المشروعية المنطقية و الجواب سهل و بسيط إذا علمنا بأن المدرسة هي أساس النمو و التطور في كل المجتمعات و هي المسؤولة الأولى عن نجاحها أو فشلها في هذه الحياة فهل ليس في ما آلت إليه أوضاعنا الاجتماعية و السياسية في عالمنا العربي اليوم ما يدعونا إلى المساءلة و المراجعة؟.

لقد كتب الأستاذ التونسي عز الدين مصباح في بحث له بعنوان ” علم اقتصاديات التعليم” الذي نُشرله في جريدة العرب الأسبوعي منذ سنة تقريبا يقول:

” في غياب نتائج التقييم العلمي للأنظمة التربوية و التعليمية العربية فإننا نعتمد على فراسة الأعرابي الحكيم” الأثر يدل على المسير” في كشف مستويات مردودية و نجاعة هذه الأنظمة . تتجلى نتائج هذه الأنظمة في الوضع الكارثي الذي أصبحت عليه الناشئة في المجتمعات العربية وبالأخص منها في تونس ، ففي آخر كل سنة دراسية, يكثر التراشق بالبيض و تتناثر أوراق الكتب و الكراسات و يؤتى بكل البدع في غمرة من الاحتفالات بنهاية السنة الدراسية و على العكس من ذلك لا تحتفل هذه الناشئة بقدوم السنة الدراسية الجديدة و لا تقيم لها الاحتفالات. ثم يضيف: يظل هذا التجهم و عدم الترحاب بقدوم السنة ملازما لهذه الناشئة طيلة السنة الدراسية بما يعود سلبا على سلوكياتهم حيث ترى بعض الشبان والشابات يجوبون الشوارع حاملين كراسات و مطويات بيمينهم بينما يستند البعض الآخرإلى سورمن الأسواريفترشون كراساتهم و كتبهم و يتسامرون بحكايات حول مغامراتهم بالهاتف الجوال و الفايس بوك أو يرددون بهمة و عزيمة ما حفظوه من الأغاني المبتذلة و أغاني الملاعب. تغيب عنهم هذه الحيوية و النشاط و تذبل الذاكرة داخل الفصل فمنهم من يبدو شارد الذهن و منهم من ليس له أدوات مدرسية رغم شقاء الأولياء في اقتنائها إذ يتم استعمال كراس واحد لكل المواد و منهم من ينشغل بكتابة الإرساليات أو الاشتراك في حملة من الهرج و المرج و المشاحنة و التهديد و الوعيد و إشهار أحدهم قبضته في وجه الآخر و من الفتيات من تفرش أدوات زينتها على الطاولة لتشرع في حصة تزيين و منهم من يجهد نفسه في البحث عن طريقة لاستفزاز أستاذه فيطرده فيستريح من أعباء الدرس( و يرمي بنفسه في الشارع). تكاد تكون هذه الممارسات عادية في كل فصل و لا يخلو مجتمع عربي اليوم منها مع وصول الأمر في بعض الحالات إلى ما هو أشنع من ذلك كله مثل التحرش الجنسي و تناول المخدرات و التدخين و تداول الأفلام و تعنيف الأساتذة ألخ…” أفلا يكفي هذا مما يدعو إلى المراجعة و إعادة النظر في طرقنا و مناهج تعليمنا؟

– لماذا العنف؟ و متى يلجأ التلميذ إليه ؟

ولجوءأبنائناإلى العنف أحيانا لماذا ؟ ومتى ؟ أليس كل عنف هو نتيجة عنف سابق عليه بحسب ما تقره الحقيقة العلمية القائلة بأن لكل فعل رد فعل يساويه؟ فهل نحن إذن نعاني من عنف قبله عنف من قبله عنف و تتواصل العملية إلى ما لا نهاية له؟
لقد ورد في مناقشة ظاهرة العنف هذه في حصة ” الرابعة” بقناة حنبعل التونسية في أواخر سنة 2009 أن أكثر من 80% من الشعب التونسي يستعمل العنف اللفظي أو البدني و التلاميذ و الطلبة هم جزء من هذا الشعب.. ألا يقوم هذا دليلا قاطعا على أن هذا الشعب بتلاميذه و طلبته في حالة من القلق و الحيرة فلماذا هو على هذه الحال؟لأن المصير للجميع اليوم يبدو غامضا و أن آفاق التلاميذ و الطلبة تبدو مكفهرة و الآمال فيها ضعيفة بالخصوص عندما يرون أشباههم من الشباب الذين أنهوابنجاح دراساتهم بقوا يتسكعون في الشوارع وبين المقاهي معطلين عن العمل إضافة الى ماآلت اليه أحوالنا الثقافية من تدهور منذ أن بدأنا ننسلخ عن هويتنا الحقيقية و نفرّطُُ في لغتنا الأم لصالح هذه اللغات العديدة و المتهافتة علينا من كل حدب و صوب و إن من فرط في لغته فقد فرط في أصله و فصله و في كل موروثة الثقافي بمختلف وجوهه و المعروف في أمثالنا الشعبية أن” اللي يقلد مشية غيرو يضيّع مشيتو..و اللي يبدّل لحية بلحية يشتاقهم الاثنين” و نحن الآن نكاد نضيّع كل لغة يمكن التعبير بها عن حالنا ما دمنا نريد كل اللغات مجتمعة في لغة واحدة (و هذا ما قد صا رمعمولا به بالفعل حتى في بعض قنواتنا التلفزية المغاربية ” المتطورة “…). و هذا هو عين الهامشية التي بدأت تدفعنا إليها العولمة منذ زمن بعيد في بلادنا و في غيرها من البلدان المشابهة… و هذا مما زاد في الشعور بالفشل لدى التلاميذ و الطلبة بالخصوص. و الملاحظ أن الشعور بالفشل يبدأ في الحقيقة من القاعدة أي منذ المرحلة الأولى من التعليم إذ أنه إذا ما اصطدم الطفل بما لا يرغب فيه أو ما لا يناسبه أو ما لا يفهمه أو ما لايُقنعه أوما لا يتناسب مع مؤهلاته و استعداداته النفسية و البدنية منذ البداية فإن “سوسة” الفشل تسكنه و تبدأ تنخر في كيانه و تتواصل معه-هكذا- إلى النهاية إلا إذا ما صادفته في طريقه ظروف جديدة حولت وجهته و أخذت بيده إلى آفاق أخرى.و بالتالي فإن فشل التلاميذ و الطلبة في مستوياتهم العليا من الدراسة بالخصوص هو -في الغالب- تعبير عن فشل قد أصيبوا به منذ البداية. لهذا فإنه – لضمان مرد ودية ناجعة و نتائج إيجابية و مشجعة في عملية التعليم و التعلم في مختلف مراحلها – لابد من التأكيد على ضرورة الانتباه الشديد إلى البدايات و الانطلاقات( من المحضنة إلى الروضة إلى المدرسة الابتدائية وإلى غيرها من المستويات التعليمية الأخرى ) و معرفة مقتضيات كل مرحلة بكل جدية و مسؤولية و العمل بها و إلا انتاب الجميع قلق مدرسي لا ينتهي و قد يتواصل معنا في جميع مراحل الدراسة و يكون عائقا لنا أو حائلا دون النجاح و التألق.

مقتضيات المنهجيات الحديثة :

لكن ماهي تُرى مُقتضيات المنهجيات الحديثة التي يمكن اعتمادها لتحسين مستوى التعليم في بلادنا ؟

كيف يمكن للطفل أن يرغب في التعلّم وينجح فيه دون أن يكون القلق له عائقا ودون الوقوع تحت طائلة الضغوط النفسية المتراكمة عليه هذه الأيام بفعل تضخم المناهج وتعدد اللغات المستعملة فيها وانحصار الوقت المخصص لها و بحكم التسارع الكبير للأحداث والتطورات في العالم الأمر الذي يجعل من التلميذ أوأي طالب علم آخر مكبلا بكثير من الحاجات والمشاغل والالتزامات المادية والمعنوية في حياته ومطلوبا منه تنفيذها جميعا في أوقات متقاربة (دراسة- رياضة – نواد-تلفزة-محمول- بلاي ستايشن – أنترنات -دروس خصوصية أو دروس تدارك –اختبارات متتالية على مدار السنة إلى غير ذالك من المشاغل.) ؟
إن إنجاح عملية التعليم والتعلم ومحاولة تخليصها من حالة التوتر المحتملة هذه يستوجب إخضاعها لجملة من الشروط هي في واقع الأمر جملة من الآراء حول طريقة إنجاز هذه العملية الدقيقة والهادفة لخير المتعلم والمعلم معا ومنه لخير الإنسانية قاطبة .
يتقدم بهذه الآراء والاقتراحات أناس مخلصون وصادقون مع أنفسهم ومع الواقع الذي يعيشون فيه دون أن يكونوا ملتزمين بأية إيديولوجية معينة بما يمكن أن يكون له من تأثير ما على سلوكهم وأفكارهم ويتمسكون بالنزاهة العلمية التامة أساسا لأعمالهم ودونما تأثر بأية سياسة معينة. إنهم من بلدان مختلفة ولايجمعهم في الحياة إلا اتخاذ المعلم والمتعلم مركزا لاهتمامهم وتفكيرهم ليأخذوا بيد كل منهما في سبيل التطور والنجاح .

يبدأ الإنسان –عادة – حياته بالتعلّم التلقائي ثم يُصبح تلميذا فطالبَ علم وقد لا ينتهي في الأخيرإلا محبا للحكمة وراغبا فيهافي أي مجال من مجالات المعرفة والحياة فما عساها أن تكون البيداغوجيات الأفضلُ والأنسبُ لكل مرحلة من هذه المراحل حتى يقتحم الإنسان عقبة هذه الحياة بالنجاح اللازم ؟
للإجابة عن هذا السؤال الكبير إجابة تامة ومقنعة لابد من ترصد جميع مراحل النمو والتكوّن والتعلم خطوة بخطوة للوقوف على حاجات كل من المتعلم فيها والمعلّم ومعرفة مقتضيات تلبيتها بكل عناية ودقة وهذا الأمر يتعلق أكثر بالمختصين في مجال التربية والتعليم في مختلف البلدان العربية ولكننا هنا سنكتفي بتسليط بعض الأضواء على المطلوب العام والضروري في هذه العملية وفي نطاق علاقتها بإمكانية تحريرها من التوترات والضغط النفسي والقلق الشخصي أو الإجتماعي .
يبدو أن أهم ما يساعد المتعلم على التعلم – حتى وإن كان صغيرا – هو معرفة الهدف (أو حتى الإحساس به ) من تعلمه والاقتناع به اقتناعا تاما حتى يكون له دافعا على التعلم وحافزا له فيه (motif) وإن أهم ما يساعد المعلم على القيام بالتعليم على أحسن وجه ممكن هو رضاه بمهنته وتقديره لرسالته من جهة وتمكنه من علمه ومن كيفية تبليغه للآخرين من جهة ثانية.
التعلم هو اكتساب المعرفة والخبرة للسير قدما في طريق الحياة دون تعثر ودون الكثير من المشاكل وما دامت الحياة هي الهدف إذن من التعلم فلا بد من تعريف لهاولوحتى تعريف مبدئي كي يتسنى لنا الأخذ بأسباب تحقيق ما نصبو إليه من المعرفة اللازمة على الوجه الأفضل (ولا نقول الأكمل ) .

تشترك جميع الموجودات في هذا العالم الحسي في كونها من المادة التي هي متكونة من الذرات ومن الذرات هذه تتكون الهبا آت ,فإذا كانت هذه المادة ساكنة جامدة فهي موضوع علوم الفيزياء, وإذا كانت مادة حية فهي موضوع علوم الحياة واذا كانت مادة حية وعاقلة في الآن نفسه فهي موضوع العلوم الإنسانية متعاونة مع علوم الحياة مع وجود الفارق بينهما في الأصل طبعا والبيداغوجية أو علوم التربية من حيث كونها تهتم بالمتعلم والمعلم معا فهي إذن صنف من صنوف هذه العلوم الإنسانية المختلفة التي تواكب الإنسان في مسيرته التربوية والتعليمية كاملة وربما أيضا حتى في بقية حياته التالية, ولا يخفى على أحد اليوم بأن العقل هو مابه يتميزالانسان عن باقي الكائنات الحية وبه يُدرك أن حياته هذه لاتقوم فقط على البعد المعرفي بل لها أبعاد أخرى تتفاعل معها لاستكمال شخصيتها الإنسانية كالبعد الوجودي والبعد الوجداني والبعد العملي فلا بد إذن في عملية التعلم والتعليم هذه من مراعاة هذه الأبعاد جميعها والأخذ بها في الاعتبار لإنجاحهاكما ينبغي والذهاب بها الى أرفع مستوى ممكن في المستقبل.

الطفولة وعلاقتها بالمدرسة والمدرسين:

1) المتعلم : يرى علماء النفس المحدثون أنه لا يجب أن ننظر إلى الطفولة بمختلف أطوارها كما لو أنها مرحلة عابرة نمر منها الى مرحلة الشباب فحسب بل إنها لمرحلة حقيقية حاصل الطفل فيها على شخصيته كاملة غير منقوصة إلا أنها فقط في طور النمو والتأهل لمرحلة أنضج منها هي مرحلة الفعل والمسؤولية هي مرحلة الشباب التي نمر منها إلى مرحلة الكهولة والاندماج الكامل في الحياة الاجتماعية والعملية . ولكي ننهض بهذا الطفل ونأخذ بيده إلى هذه المرحلة المسؤولة يجب أن نكون نحن قد بلغنا المسؤولية هذه على أفضل مستوى ممكن ونكون بالتالي عارفين خير المعرفة بمقتضيات الطفولة وحاجاتها البد نية والذهنية والنفسية منها بالخصوص حتى نقوم بهذه المهمة خير قيام ونجعل من أنفسنا خير معلم لخير متعلٌم.
نحن نعلم أن الطفل وقد بلغ سن المدرسة قد اكتملت شخصيته من حيث بنيتها الإنسية ومقوماتها الذاتية ونحن إذ نريد تعليمه لا نستطيع أن نفعل ذلك إلا في ضوء تلك المقومات الذاتية التي يمتلكها : لغته, تاريخه, موروثه الحضاري ودينه وبيئته. والمعلم هنا بالنسبة للمتعلم أو الطفل كالفلاح بالنسبة إلى الأرض التي سيفلحها. الطفل أرض والمعلم فلاح ومثل ما يحتاج الفلاح الماهر إلى دراية كافية بأرضه وتاريخها ونوع تربتها وما يصلح وما لا يصلح لبذرها حتى يُحسن استغلالها والاستفادة منها يحتاج المعلم الماهر أيضا الى معرفة الطفل: معدنه وتاريخه و بيئته ومؤهلاته واهتماماته ليٌحسن تعليمه وتربيته والأخذ بيده إلى حياة أفضل .
يقول بياجيPiaget الذي يُعتبر أبا للتربية الحديثة معلقا على من يُقيم شرعية المدرسة على أساس علم النفس التكويني:
“إن لكل كائن إنساني الحق في أن يوضع خلال مرحلة التكون في بيئة مدرسية تمكنه من أن يحصل حتى النهاية على أدوات التكيف اللازمة التي لا يمكن الاستغناء عنها و نعني بهاعمليات المنطق”. إن ارتياد المدرسة يبدوله أمرا لازما لاغنى عنه لا من أجل الثقافة و التعلم الأساسي فحسب بل هو من أجل قيام البنى العقلية بوظائفها مهما يكن دور العوامل الخارجية في ديناميكية التكوّن النفسي للطفل ويرى العديد من المفكرين في مجال التربية والتكوين أن نعزّز التعليم لا أن نستهين به ونعدد الروافد الخارجية تبعا للأصول الاجتماعية للطلاب بحيث نقدم الأكثر إلى أولائك الذين لا يمتلكون إلا الأقل وهكذا يبدو أن هؤلاء المربين يدعون إلى إعادة تأهيل المدرسة وأنهم يوكلون إليها مسؤولية أكبر من ذي قبل إذ يعترفون لها بالقدرة على أن تعوّض على النقائص التي ترجع إلى البيئة العائلية والمحيط الخارجي .
2) المعلم: وهكذا يمكن أن نستنتج أن المعلم أو المدرس لينجح في مهمته يجب عليه أن يحس بمختلف حاجات الطفل البد نية منها والذهنية والنفسية ولم لا حتى تطلعاته المستقبلية لأن الناس مختلفون في معادنهم وأصولهم وخاصة في محصولهم الوراثي وبالتالي في حاجاتهم ونقائصهم وإن أي تقصير في تلبية هذه الحاجات للطفل أو الشخص في مختلف مراحله من جانب العائلة أو من جانب المدرسة يمكن أن يهدد وجوده لاحقا بالخطر الذي يظهر في الشعور بالنقص أوالإحساس بالألم أو المرض (أو ربما حتى بالإعاقة ). أوليست علاقة الجسد بالنفس علاقة حميمية أصيلة وبالتالي فإن ما يضر بالنفس يضر بالجسد والعكس صحيح؟ولا يخفى على أحد أن تحديد هذه الحاجات الجسدية والنفسية تحديدا واضحا لمن الصعوبة بمكان وتكمن هذه الصعوبة في التعقيد الهائل في تركيبة الانسان البيلوجية- النفسية خصوصا إذا ما علمنا أن هذا الكائن البشري يرزح تحت عبء الوراثة التي ترجع به إلى عدة ملايين من السنين كما يذكرعلماء الأنتروبولوجيا ,لكن المهم أن الإنسان لا يكتمل أبدا وليس له أن يدعى الكمال يوما لذا يرى جان بول سارتر:( أن الإنسان مشروع يتحقق ولا يبلغ نهايته أبدا) و لذلك فهو في حاجة دوما إلى من يساعده على تجاوز ضعفه ونقصه والارتقاء به إلى مستويات أفضل فى جميع المجالات الحيا تية و المعرفية والثقافية ويرى بعض المفكرين أن مستقبل الانسانية كله فى عهدة المربين، كما أشار إلى ذلك الإمام الغزالى سابقا بقوله 🙁 إنه بعملية التعليم هذه يُخرج المعلمون الناس من حد الهمجية إلى حد الإنسانية).لكن مهمة المعلم اليوم قد صارت أصعب منها فى أىّ وقت مضى لأننا صرنا نعيش فى عصر جمع من المتناقضات والتعقيدات ما يجعل التوفيق بينها وفهم أسبابها والعلاقات بين مختلف أطرافها مهمة صعبة أو تكاد تكون مستحيلة ولم يعد للمعلم في الواقع ولأسباب عديدة القيمةُ التي كان َيحضى بها فى السابق ومع ذلك فإنه يجدر به لكى ينجح فى مهمته الراقية هذه اليوم ويحافظ على مكانته فيها أن:
– يكون مندفعا في عمله بحب مهنته
– وأن يكون مؤمنا بها إيمانا صادقا .
– وان يعتنق فلسفة تربوية معتدلة وهادفة تعمل على الأخذ بيد الطفل وتنمية شخصيته فى محتلف أبعادها دون الاحتكام إلى أية ايديولوجية تتناقض ومعطيات الواقع أوتنحرف به عن الجادة, والمقصود بالجادة هنا هوما يجعل الطفل متفاعلا بجدية كاملة مع حاضره ومتهيئا بكل أهلية لمستقبله .
– وأن يحاول دائما إدراك احتياجات تلاميذه ويفهم نفسياتهم ويتعرف على مشاكلهم واهتماماتهم قدر ما يستطيع كما يَحسُن التذكير هنا بأن عملية التعليم هذه هى عملية تفاعل مثمر وخلاق مع المتعلم ليرقى بنفسه ونرقى به في مستوى فهم الحياة وتحمل المسؤولية .

3-المدرسة وموقفها من الطفل:

أما المدرسة اليوم فهي تمر بصعوبات جمة وتتهدّدها اتهامات خطيرة رغم ما تقوم به من عمل إ نسانى عظيم ذلك أن التطورات التى ظهرت فى وسائل تبليغ المعلومات والمعارف من مثل التلفاز والهاتف المحمول والمكتبة الألكترونية أو الأنترنات بمختلف شبكات التواصل الاجتماعي المتوفرة فيها جعلت المدرسة تكاد تفقد مكانتها الطلائعية التي كانت لها فى الماضي القريب ففي أمريكا وبريطانيا اليوم مثلا كما فى كثير من بلدان العالم المتطوّر الأخرى قد صار فى مقدور الناس أن يتعلموا “وحتى أن يشتغلوا وهم فى بيوتهم وبدون معلم وبدون مدرسة ودون حاجة إلى التنقل فلا بد لمن يأخذ على عاتقه مهمة التعليم هذه أن يأخذ أيضا بعين الاعتبار كل هذه الظروف مجتمعة ويعتبر نفسه فى سباق مع الزمن وفى تنافس كبير مع هذه الآلات التي قد صارت تقتحم حياتنا يوما بعد يوم, كما لا ننسى أن دور المدرسة اليوم لم يعد مقتصرا على نقل المعلومة إلى التلميذ بل صارت مهمتها الأهم استكمالا لمهمة البيت فى تربيته و صيانته من كل سوء وإلا لما تميزت عن هذه الآلات فى شيء وربما صارت أقل منها أهمية إذا ما تغاضت في عملها عن هذا الدورالأساسي .

يقال عادة أن الطفل يأتي هذا العالم كما لو كان صفحة بيضاء يمكن أن نكتب عليها ما نشاء لكن هذا في رأينا اليوم تعبيرٌ مجازي أكثر منه تعبيرعن الحقيقة الواقعة ونحن إذا فعلنا ذلك فإننا نرتكب خطأ تربويا فادحا لايغفره لنا أحد لأننا بذلك نستغل براءته الطفولية لنوجهها كما نشاء وبذاك نخدعه ونخدع أنفسنا والمجتمع لأننا بهذا ننفي عنه شخصيته ولا نعترف له بذاتيته المتميزة ونعامله كما لو كان نسخة طبق الأصل من عديد من النسخ المتشابهة التى يراد تكوينها وهذا اعتداء فضيع على الكرامة الانسانية وعلى الديمقراطية و حقوق الانسان ولا أظن الطفل يمر من أمامنا لاحقا دون أن يحس بهذا الاعتداء على شخصيته من طرفنا ولكن- للتدارك- يمكن لهذا القول أن يكون صحيحا على الطفل إلى حد ما حالما يولد وتضعه أمه بيننا فهو حينئذ كقطعة من الصلصال يمكن بتدخلنا فيه وتربيتنا له تشكيلُها ولكن في ضوء موروثه البيو- ثقافي الموجه له في الداخل إذا استطعنا معرفته وفي ضوء مقتضيات الواقع الحالي .
.
إن الطفل إذن لا يأتي المدرسة إلا وهو مكتمل الشخصية كما ذكرنا ، هذه الشخصية التي تبدأ منذ الولادة (إذا لم نقل من قبلها) ولعلها قد تكتمل في تشكلها وبروز معالمها مع السنة الرابعة والخامسة تقريبا-كما يقول العلماء – فلا بد أن نضع في الاعتبار إذن أن مجيء الطفل إلى المدرسة ليس لأن يبدأ من جديد في تكوّنه وإنما ليستكمل ما بدأه منذ دهر في بطن أمه أخيرا وفي بطن الأرض من قبله ومنذ ست سنوات وهو بين أهله و ذويه في بيته وفي محيطه الطبيعي والاجتماعي وفي المحضنة ومن بعدها في الروضة إذا كُتب له أن يمرّ بجميع هذه المراحل , فإننا إذا ما أردنا تعليمه في هذه السنوات الأولى من المدرسة فإننا في الحقيقة سنواصل معه مرحلة طويلة قد بدأت منذ زمن بعيد جدا وعبر مراحل متعددة من تكونه وهنا تكمن الصعوبة الكبرى في هذه المهمة لأننا لا نعرف بالضبط ما قد تعلم في الماضي من الصواب وما قد تعلم من الخطإ (أليس كذالك؟).
ومن المهم جدافي الأخير أن نفهم جميعا ويفهم أبناؤنا التلاميذ وأولياؤهم بالخصوص وهو مايجب أن يترسخ أيضا في العقلية العامة بأن الواقع اليوم في تونس- كما هو في مختلف البلدان العربية والاسلامية وغيرها من البلدان الأوروبية من قبلنا – يقتضي أن الدراسة والتعلم لم يعودا بالضرورة وسيلة للحصول على العمل أو موطن شغل نعيش به بقدر ما هما ضرورتان للتأقلم والاندماج في المجتمع والرفع من مستوى التفاعل مع الآخروالتعاون معه على تحمل المسؤولية ,المسؤولية الجماعية على فرض التعايش السلمي بين البشرفي هذا العالم المتقلب والمتغير في كل لحظة لأ نه في شدة الا ختلاف والتباين في المستوى التعليمي والثقافي بين البشر تكمن مشكلة الصراع الحضاري, هذه المشكلة التي هي في استمرارها استمرارٌ للتوتر والتعصب وصعوبة التواصل. وحل هذه المشكلة هو في أن نطلب العلم دائما لذاته قبل أن نجعل منه مطلبا لسد الحاجة المادية. وكلنا يعلم أن كثيرا من الناس الذين قد نجحوا في حياتهم المادية دون أن يكون لهم مستوى عال من العلم والثقافة لكنهم لم يكونوا بالضرورة دوما ناجحين كثيرا في حياتهم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية وقد يتسببون أحيانا لأنفسهم ولأهاليهم ومجتمعاتهم في كثير من الأحزان والمتاعب كما يتسببون لهم بالخصوص في كثير من التخلف عن الركب الحضاري لأنهم ماكانوا في حياتهم يطلبون إلى جانب ما كانوا يطلبونه من الأموال والمتع العلمَ لذاته ليتسنى لهم حسنُ التصرف في الأموال وفي أنفسهم وفي المجتمع ولا نُعدم أمثلة كثيرة من مثل هؤلاء في التطرف الديني وممارسة الإرهاب أوفي الانخراط في عصابات الجرائم والسرقات .

إصلاح التعليم:

لكن هل من إمكانية لإدخال إصلاحات جديدة على عملية التعليم والتعلم؟
الملاحظ أن العنف قد استشرى حتى في المدارس الغربية هذه الأيام وهو ما من شأنه أن يتسبب في كثير من التوتر بين التلاميذ أنفسهم وفي ما بينهم وبين معلميهم وأساتذتهم ومن الأسباب الرئيسية لذلك كما يرى بعض المحللين لهذه الظاهرة تساكن أغلب الأوروبيين من الأصول الأجنبية على هامش المدن والقرى الأوروبية دون الاختلاط بالأوروبيين الأصليين واندماجهم فيهم مما يؤدي إلى عدم تعاونهم بعضهم مع بعض وظهور الإحساس بالتمايز وعدم المساواة في ما بينهم الأمر الذي يجرّ إلى العنف والتصادم لا محالة . لهذا يرى بعض الخبراء في شؤون التربية والتعليم أن إصلاح التعليم مرهون بإصلاح المجتمع بكامله لكننا لانستطيع أن ننتظر إصلاحا للمجتمع بكامله لا ندري متى يكتب له أن يتحقق حتى نُصلح حال التعليم وربما العكس هو الأصح حيث يمكننا بإصلاح التعليم أن نصلح المجتمع وإن كان ذلك على المدى البعيد لكن تجدر الإشارة هنا إلى مايمكن أن يساعد على تقدم هذه العملية وتحسينها بالنسبة لنا في تونس كما في بعض البلدان العربية الأخرى :

ضرورة التوسيع في مجالات النشاطات التثقيفية والترفيهية للتلاميذ تلك الموازية عادة لعملية التعليم في بلداننا نظرا لما يعانيه أغلب تلاميذنا اليوم من ضغوطات نفسية واجتماعية في هذه المرحلة الصعبة من تاريخنا ولا شك أن ذلك من العوامل المساعدة جدا على حب المدرسة والاهتمام بها أي نحاول أن نجعل من المدرسة الوجهة التي يرغب فيها التلميذ ويجد فيها راحته وما يعوض له عن المنزل والشارع قدر المستطاع .

والتقليل قدر الإمكان من عدد التلاميذ في صفوفنا (أو أقسامنا ) أو لنقل بضرورة الحد من الاكتضاض في صفوفنا .

أما بخصوص وسائل الإيضاح فإن الاعتماد كليا على التقنيات الحديثة ليس بالضرورة نافعا ومفيدا دائما .لأن هذه التقنيات المتطورة رغم فعاليتها الظاهرة فإنها – في رأينا – مبددة للانتباه ومُهدرة للتركيز وتحول المتعلمين إلى مجتمع للمشهد أكثر منهم مجمتمع للتعلم واستيعاب المعرفة ,وإن المتعلم كلما ابتعدنا به عما هو طبيعي في نفسه وفي محيطه كلما قل اهتمامه بنفسه وبمحيطه, ألم يقل جان جاك روسو إبان عصرالنهضة في كتابه المشهور (أميل أو مقتضيات التربية ) : ” إن الآداب والعلوم مفسدة للإنسان ُ ؟ ” إنه كان يقصد بذلك أنها ترُوغ به عن طبيعته التي يراها خيرة وسليمة في ذاتها مالم يتدخل فيها مايُعكر صفوها وسلامتها من هذه الآ داب والعلوم والتقنيات المختلفة التي ابتكرها الإنسان لتكون له وسيلة لنموه وتطوره فإذا بها تصير له قيودا لحريته الطبيعية . لكن لابد هنا من التدارك والتنبيه إلى أن روسو هنا قد نظر في هذه الآداب والعلوم والتقنيات فقط من وجهها السلبي لأن هذه الآداب والعلوم والتقنيات وغيرها من المعارف المختلفة ضرورية للبشر كي يتقدموا أكثر في إنسانيتهم ويتحرّروا أكثر مما يشدهم إلى حيوانيتهم التي عاشوها في تاريخهم ولكي يرقوا بأنفسهم إلى المستوى الإنساني المطلوب لأن روسوهذا الذي يدعو إلى تربية إنسانية ناجحة في ضوء ماهو طبيعي هو نفسه الذي دعا إلى التعايش السلمي بين البشر في ظل عقد اجتماعي يحترم فيه المرء كل قوانينه ويقول في هذا الصدد : [إن احترام القوانين التي نضعها بيننا هوفي نفس الوقت ممارسة للحرية التي نحتاجها ] وهذا دليل على اعترافه بضرورة هذه االمعارف والعلوم والآداب للتعايش السلمي بين البشر إذا ما أحسن استعمالها.

وأخيرا لابد من الاشارة هنا إلى أنه لايأس مع شبابنا من قدرته غدا على تحمل مسؤولياته الوطنية في المستقبل إذ أنه رغم كل الصعوبات التي يلاقيها اليوم فإن لنا في همته وعزيمته ما يجعله يتحداها ويتجاوزها مهما كان نوعها من أجل تحقيق المصيرالمنا سب الذي يرغب فيه والآمال التي يريدها ومن أجل تأكيد الذات في خضم هذه الحياة الصعبة دون الوقوع في الهامشية والترهات واللامبالاة الضارة به وبمجتمعه .
يقول جون ب. رونسار : Jean. P. Ronsard
“ما كان الشباب قط من أجل المسرات والملذات فحسب إنه أيضا من أجل تحقيق البطولة في هذه الحياة الصعبة “.
ويقول بول فارلان : Paul Verlaine
“إنه من المهانة أن تبكي وتنحب وتمد اليد’ استعمل طاقتك كلها في صنع قدرك بنفسك”.
أما تشارل ديكنز : Dickens الإنقليزي فقد كان مارا ذات يوم بشاب متسوّل قابعا على قارعة الطريق ويلحّ على المارة في السؤال فعاد إليه بعد أن تجاوزه قليلا وركله بقدمه فقام الشاب في وجهه مستنكرا عليه فعله فقال له ديكنز: لم أعطك مالا لكنني جعلتك تنهض قائما ….

لكن ما أظن شبابنا اليوم في حاجة إلى من يركلهم بأقدامه حتى ينهضوا قائمين.
عبد اللطيف بن سالم
Bensalem.abdellatif@yahoo.fr
هوامش:
* عزالدين مصباح : أستاذ تونسي جامعي يدرس بكليات الآداب بتونس العاصمة حاليا.
* بياجي : (1896_1880)عالم نفساني وتربوي سويسري ولد في نيو شتال.له مؤلفات عديدة عن نمو القكر وتطور اللغة عند الطفل وعن فلسفة العلوم الوراثية.
* الغزالي: أبو حامد محمد,توفي سنة (م1111 ) فيلسوف وعالم كلام ومتصوف من أهل طوس بخراسان وعٌلم بنظامية بغداد,صاحب كتب كثيرة منها: تهافت الفلاسفة وإحياء علوم الدين والمنقذ من الضلال وغيرها.
=جان جاك روسو: (17121778) كاتب فرنسي وفيلسوف اجتماعي صاحب كتابي أميل في التربية والعقد الاجتماعي في السياسة
* جون ب .رونسار : (1524_1585) شاعر فرنسي من رواد النهضة الأدبية له (أناشيد غنائية) و(الغراميات)
بول فارلا ن : (1844-1896) شاعر فرنسي متأثر ببودلار ومدمن مسكرات اشتهر ب(القصائد اللعينة )
* تشارل ديكنز : (1812-1870) من مشاهير القصاصين الإنقليز –أبدع في وصف البسطاء والأولاد البائسين له (دافيد كوبرفيلد ) و (أوليقر تويست ).

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *