خطاب الزعيم الحبيب بورقيبة في مدينة أريحا الفلسطينية
في مثل هذا اليوم 3 مارس من سنة : 1965 – ألقى الزعيم الحبيب بورقيبة خطابا في مدينة أريحا الفلسطينية خلال زيارته إلى فلسطين سنة 1965، وقد دعا بورقيبة الفلسطينيين إلى التخلي عن مطلب «الكُلّ وإلاّ بَلاش» وهي سياسة فاشلة لم يحصل منها الشعب الفلسطيني إلا تواصل محنته إلى عقود.
– كما دعا الفلسطينيين إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين وذلك على أساس القرار الأممي بتقسيم فلسطين، وقد ثارت ثائرة العرب آنذاك واعتبروا بورقيبة خائنا، ويريد التفريط في حقوق الشعب الفلسطيني، غير أنّه ردّ آنذاك : إن هذه نصيحته للفلسطينيين وهي نابعة من سياسة رجل مجرّب وواقعي…
– في الآتي مقتطفات من خطاب بورقيبة في أريحا:
«إني شديد التأثر من هذه المناظر، وشديد الاعتزاز لِما لمسته من حماس وإرادة حديدية وتصميم على استرجاع الحق كاملاً. تعلمون أن الشعب التونسي، كان، إبان النكبة، مغلوباً على أمره، يعانى وطأة الحكم الاستعماري المباشر. ومع ذلك، فقد أسهم في القيام بالواجب المقدس، وشارك في حرب فلسطين. لكننا نعتبر في تونس، أننا لا نزال مقصّرين…
لكن ما أريد أن ألفت إليه نظركم، أصحاب الحق السليب، كما كنا نحن أصحاب الحق، الذي استبد به الاستعمار في تونس، هو أنه يجب أن تكونوا في الصف الأول من هذه الواجهة، التي تعمل على حماية فلسطين. إنني أصارحكم بما أعتقده في قرارة نفسي، وما آمنت به، من بعد تجربتي في الكفاح من أجل التحرر والانعتاق، التي دامت 34 سنة، فإن دوركم في المعركة هو الدور الأول، وهذا ما يجب أن تضعوه نصب أعينكم في قرارة نفوسكم وعقولكم.
أريد أن ألفت نظركم إلى أن تجربتي الشخصية في كفاحي الطويل، أكّدت لي أن العاطفة المشوبة، والأحاسيس الوطنية المتّقدة، التي أرى نموذجاً حيا منها على وجوهكم، لا تكفي لتحقيق الانتصار على الاستعمار، بل لا بد مع الحماس والاستعداد للتضحية والموت والاستشهاد من قيادة موفقة، تتحلى بخصال كثيرة، ولا بد من رأس يفكر ويخطط، وينظر إلى المستقبل البعيد. والكفاح المركز، يقتضي فهْم العدو، ومعرفة إمكانياتنا الحقيقية، وتقدير إمكانيات الخصم، وضبطها بأكثر ما يمكن من الموضوعية والتحري والتثبت، حتى لا نرتمي في مغامرة أخرى، تصيبنا بنكبة ثانية، وتعود بنا أشواطاً بعيدة إلى الوراء.
إن توفير أسباب النجاح من خصائص القادة والزعماء والمسؤولين وهذه الأسباب، كانت تنقصنا في السنين الماضية، حين خضنا المعركة. وسنعمل – إن شاء الله – بكد وجد وإخلاص وصدق على توفيرها للمعركة المقبلة. ولقد بدأنا هذا العمل الإيجابي، ولكنه لم ينتهِ بعد، وهو يحتاج إلى جانب عظيم من الصدق والإخلاص والجدية والشجاعة الأدبية.
إن الإكثار من الكلام الحماسي، أمر سهل، وبسيط للغاية. أمّا ما هو أصعب وأهم، فهو الصدق في القول، والإخلاص في العمل، ودخول البيوت من أبوابها. وإذا اتضح أن قوانا، لا قِبل لها بمحق العدو ورميه في البحر، فعلينا ألاّ نتجاهل ذلك، بل يجب أن ندخله في حسابنا، وأن نستخدم، مع مواصلتنا الكفاح بالسواعد، الإستراتيجية، وأن نستوحيها في مواقفنا، حتى نتقدم نحو الهدف، مرحلة بعد مرحلة، مستعينين في ذلك بالحيلة والجهد، فإن الحرب، كما لا يخفى، كر وفر.
وعلى الزعيم المسؤول عن المعركة، أن يتثبت من الطريق الموصل إلى الهدف، وأن يدخل في حسابه المنعرجات، التي قد يضطر إلى اتّباعها، لاجتياز العراقيل والصعوبات. وعندما يدرك الزعيم، أن الخط المستقيم، لا يمكن أن يوصل إلى غاية، فإنه يضطر لاتّباع المنعرج، فيبدو، في الظاهر، وكأنه ترك الهدف جانباً، الأمر الذي يثير ضجة الأتباع. وفي هذه الحالة، يجب على القائد، أن يفهمهم أنه اضطر إلى ذلك اضطراراً، وأنه سيعود إلى الطريق، بعد اجتياز الصعوبة، التي واجهته.
ويبدو أن هذا الأمر، قد تعذر على الكثير من الزعماء العرب. والواقع أن الكارثة، التي مُنينا بها، ووقوفنا على حدود فلسطين العربية، دليل على أن القيادة، لم تكن موفقة، فإن عجز الجيش عن تحقيق النصر، مع توافر الحماس، يدل على خطأ القيادة، بدون شك. وكما قلت لكم، فإننا نعمل بجد واجتهاد، على رفع مستوى القيادة، وجعلها في مرتبة مسؤولياتها، بالاجتماعات الدورية، وبمؤتمرات القمة وغيرها.
ولا شك في أنه لا يمكن لأي زعيم عربي، يتهم، لحديثه عن الحل المنقوص، أو عن الحل الوقتي، بالخيانة، ويوصف بأنه صنيعة الاستعمار، أن يواصل عمله في أتون من المهاترات. ولكي لا يعطل الشعب تنفيذ الخطة، يجب أن تكون له، وهذا ما توافر في تونس – والحمد لله – ثقة في زعمائه وفي قادته وفي المسؤولين، حتى يمكنهم من حرية التصرف والوصول إلى الهدف.
وما كنا لننجح في تونس، خلال بضع سنوات، لولا أننا تخلينا عن سياسة (الكل أو لا شيء)، وقبلنا كل خطوة، تقربنا من الهدف أمّا هنا، فقد أبى العرب الحل المنقوص، ورفضوا التقسيم وما جاء به الكتاب الأبيض. ثم أصابهم الندم، وأخذوا يرددون: ليتنا قبِلنا ذلك الحل، إذاً لكنا في حالة أفضل من التي نحن عليها.
ولو رفضنا في تونس، عام 1954، الحكم الذاتي، باعتباره حلاً منقوصاً، لبقيت البلاد التونسية، إلى يومنا هذا، تحت الحكم الفرنسي المباشر، ولظلت مستعمرة، تحكمها باريس. هذا ما أحببت أن أقوله لكم في هذه الزيارة، التي سيتذكرها، دائماً، هذا الرجل المتواضع أخوكم الحبيب بورقيبة. وهذه هي نصيحتي، التي أقدمها لكم ولكل العرب، حتى تضعوا في الميزان، لا العاطفة والحماس فقط، بل كذلك جميع معطيات القضية.
وهكذا نصل إلى الهدف، ولا نبقى سبع عشرة سنة أخرى، أو عشرين سنة، نردد: (الوطن السليب… الوطن السليب)، دون جدوى. وأخيراً، أدعو لكم بالتوفيق وسعة الصبر، حتى نوفر أسباب النجاح. أدعو للمسلمين بالتكتل، وللقيادة بالانسجام والابتعاد عن المركبات، سواء كانت مركبات للنقص إزاء العدو، باعتباره في منتهى القوة، أو مركبات الغرور والتهور والارتماء على الهزيمة المحققة، التي يمكن تلافيها بإمعان النظر، وهكذا، نضمن النجاح».
الرابط : مقطع من خطاب الرئيس الحبيب بورقيبة في أريحا بفلسطين.
# أسامة الراعي#
متحصل على :
شهادة الأستاذية في التاريخ.
رحم الله أكبر زعماء تونس والعالم. يا ليتنا سمعنا واتبعنا فكرة الحبيب بورقيبة.