تفسير قرآني: من الآية 83 الى الآية 91

شارك اصدقائك الفايسبوكيين

من الآية 83 الى الآية 91

الآيــات

{وأيّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ* وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ* وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصَّالِحِينَ* وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ* وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ* وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} (83ـ91).

* * *

معاني المفردات

{الْكِفْلِ}: الحظّ.

{النُّونِ}: الحوت، و{وَذَا النُّونِ}: النبي يونس(ع).

{نَّقْدِرَ}: نضيق عليه، من قَدَرَ عليه رزقه: أي ضيّق.

* * *

مع أيوب(ع) الصابر

… وتمضي آيات القرآن في جولة سريعة على تاريخ الأنبياء في إيحاءات متلاحقة بالرعاية الإلهية التي كانت تحوطهم في قضاياهم الخاصة والعامة، حتى في المفردات الصغيرة من الواقع، لتوحي من خلال ذلك، أن الله لا يترك عباده ورسله الذين أخلصوا له الإيمان والعمل، ولا يهمل أوضاعهم، وأنه يسمع دعاءهم ومناجاتهم وشكاواهم، ليستجيب لذلك كله، بطريقة سريعة تحمل الكثير من اللطف، والكثير من الحنان.

{وَأَيُّوبَ} هذا النبيّ الذي ابتلاه الله بأشد أنواع البلاء، فذهب ماله ومات أولاده، وابتلي بمرض شديد مدّة طويلة، من دون أن يتأفف أو يتضجر، أو يعترض على الله في حكمه، أو يتعقّد من ذلك في حركة إيمانه، ما جعله مثلاً يضرب به للصبر، عندما يتحدث الناس عن الصبر، فيذكرون صبر أيّوب، ولكن ذلك لم يمنعه من الاستغاثة بالله، والابتهال إليه لأن ذلك ما يريده الله من عباده الصالحين الذين يستشعرون الإحساس بالحاجة المطلقة إليه، لا سيما في حال البلاء.

وهكذا رفع أيوب صوته بالدعاء إلى الله، بعد أن تمرّد على كل نوازع الجزع في نفسه، وارتفع عن كل عوامل الإشفاق من حوله: {إذ نادى ربه أني مسني الضر} فقد أكل المرض كل مظاهر العافية في جسدي، {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وليس هناك من يرحمني غيرك، وأنت الذي خلقت عبادك، وأنعمت عليهم، وسخّرت لهم الوجود كله برحمتك ولطفك؛ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} دعاءه الذي يتضمن الإخلاص والخشوع والانقطاع والانفتاح الإيماني على الاستعانة بالله دون غيره، {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} فرجع إلى صحته وعافيته، {وآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} وعاد إلى حياته العائلية المليئة بالعاطفة الغنية بالحنان حيث رزقه الله ذلك، {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} في ما يتمثل فيه من مظاهر الرحمة التي تحركت بإرادة الله بطريقة غير عادية، في شبه معجزة، ليظهر عنايته ورعايته لعبده الذي أخلص له، {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} الذين أخلصوا لله العبادة، ليتذكروا الحقيقة الإلهية التي تتحرك في حياة الناس، لتوحي إليهم بأن البلاء الذي ينزل بهم ليس عقوبةً لهم دائماً، بل قد يكون امتحاناً لإيمانهم واختباراً لصبرهم، وإظهاراً للآخرين بأن المؤمن لا يسقط أمام البلاء، ولا يتراجع عن مواقفه.. ثم يلطف الله به ويرحمه ويكشف ما به من ضرّ ويُحسن إليه لأنه لا يضيع لديه أجر من أحسن إليه عملاً.

وقد أراد الله لهذه الحقيقة المزدوجة في البلاء الذي يرتكز على الصبر، وفي كشف الضر الذي ينطلق من الرحمة، في هذا النموذج الإيماني الرائع الذي يريد للمؤمنين أن يتمثلوه في كل زمانٍ ومكانٍ، ليعرفوا بأن المؤمن لا يجزع من البلاء، مهما كان شديداً وقاسياً، وبأن الله لا يخذل عبده، بل يرحمه ويلطف به ويحوّل عسره إلى يسر في نهاية المطاف.

* * *

وإسماعيل وإدريس وذو الكفل

{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ} فقد حمل كل واحد منهم الدعوة إلى الله وإلى دينه، وتحمّل الكثير من الآلام في سبيل إبلاغها إلى الناس، وصبر على ذلك كله، من موقع الوعي العميق للرسالة في مواجهة الأفكار المضادة، والأهواء المعادية، ولم تكن المسألة عندهم هي ما يحصل لهم من نتائج إيجابية على مستوى أنصار الدعوة، بل المسألة عندهم هي ما يحققونه من رضا الله في تحقيق إرادته في أداء مهماتهم بأكمل وجه، هذا بالإضافة إلى ما عاشوه من المعاناة في التجربة الإيمانية الذاتية، كانقياد إسماعيل(ع) للذبح وصدقه بالوعد، وما إلى ذلك. وكان الإيمان الصابر والروح الرسالية القوية هي ما يجمع بينهم، وكان الالتجاء إلى رحمة الله هو سرّ مواقفهم. ولكننا قد لا نملك الإحاطة بالتفصيلات الدقيقة لشخصيات هؤلاء، إلا في ما ذكره الله من ملامح شخصية إسماعيل مع أبيه إبراهيم، وفي صدقه للوعد، وفي الخطوط العامة لشخصية إدريس، وذي الكفل الذي اختلف في أنه هل كان نبياً أو أنه عبدٌ صالحٌ..

وقد لا يكون ذلك من الأمور المهمة على الصعيد القرآني، إذ إن هذه السورة تستهدف التأكيد على الثبات كقيمة كبيرة في حياة هذه الطليعة المتقدمة التاريخية من الأنبياء أو الصالحين، والإعلان عن رعاية الله لهم في حالات البلاء بالوسائل الكفيلة برفعه أو تخفيفه عنهم، ولو بعد حين.

{وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} وأنجيناهم من القوم الظالمين، ومن كل الضغوط القاسية التي كانت تثقل حياتهم بالمشاكل والآلام، {إِنَّهُمْ مِّنَ الصَّالِحِينَ} الذين يستحقون كل رحمة وعناية ورعاية، لأن أفكارهم وكلماتهم وأعمالهم كانت صلاحاً للحياة والإنسان في خط الرسالات الإلهية.

* * *

الله يستجيب لذي النون

و{وَذَا النُّونِ} وهو يونس بن متى الذي نُسب إلى النون، وهو الحوت، لالتقامه إياه، فأرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون، فلبث فيهم مدة طويلة، فتمردوا عليه، ولم يؤمنوا به فدعا الله عليهم، وخرج من بينهم، فتابوا فرفع الله عنهم العذاب، وهكذا يريد الله أن يحدِّثنا عنه، {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} كما توحي به بعض التفاسير، من خلال الشعور بخيبة الأمل في ما بذله من جهدٍ كبير لهدايتهم، وما عاناه من آلام ومشاكل في المدة التي قضاها بينهم. فكان محكوماً بجوّ الداعية الذي يشعر بأنّ مهمته قد انتهت من دون أن ينجح في الوصول إلى نتائج كبيرة. فانفصل عنها في حالة انفعالٍ وغضب إزاء الذين شاركوا في هذا الفشل.

وربما جاء في بعض القصص القرآني، في ما يذكره الرواة من قصة يونس، أنه انفعل من رفع العذاب عنهم فذهب مغاضباً، لأنّ ذلك قد يُسقط موقعه من قومه، لأن ما وعدهم به من العذاب لم يتحقق، فكأن المسألة بالنسبة إليه، انفعال ثأريٌّ للذات. ولكن هذا الرأي لا يتناسب مع العمق الإيمانيّ الذي يتميّز به هذا الرسول الصالح في حركة الدعوة إلى الله، وفي ابتهالاته الروحية في حالة الشدّة وفي حديث الله عنه بأنه من المؤمنين الذين يستجيب الله لهم..

{فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} قد يتبادر إلى الذهن أنه انطلق في غضبه من حالة تمرّد في الذات، وهروبٍ انفعاليٍّ يستغرق فيه الإنسان، حتى ليخيّل إليه أنه يملك القدرة المطلقة على الذهاب إلى أيّ مكانٍ شاء، بعيداً عن قدرة الله التي تحيط بكل شيء. وهكذا يبدو لأوّل وهلةٍ، أنه كان يظن في غفلة من الذات أنه حرٌّ في حركته وفي هروبه، وبذلك انحرف عن خط العقيدة والإيمان وظلم نفسه. ولكن المراد هنا من كلمة {نَّقْدِرَ} المعنى الذي يلتقي بالتضييق، أو بالتحديد كما في قوله تعالى: {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16]، وهكذا يكون معنى الآية، أن هذا العبد الصالح خرج مغاضباً لقومه، وهو يظن أنه قد ملك حريته، بعد أن انتهت مهمته، باستنفاد كل تجاربه في الدعوة إلى الله وعدم تجاوب قومه معه، واستحقاقهم العذاب على ذلك، وقرب نزوله عليهم، فلم يفكر بالمرحلة الجديدة من عمله، ولم ينتظر عودتهم إلى الإيمان من خلال التجربة الأخيرة التي قد تحقق نتائج كبيرة على هذا الصعيد، وهي مسألة تهديدهم بالعذاب، الذي ثبت ـ بعد ذلك ـ أنه كان الصدمة القوية التي أرجعتهم إلى عقولهم، فانفتحت قلوبهم على الإيمان بالله وبرسالاته من جديد. كما حدثنا الله عن ذلك في آية أخرى..

لقد كانت لحظة انفعال تختزن الغضب لله، ولكنها لم تنطلق للتفكير بالمستقبل في آفاق الدعوة إلى الله، التي تعمل على أن تطلّ على الآفاق الواسعة من عقل الإنسان وروحه وقلبه لتنتظر منه انفتاحة إيمان، ويقظة روح، وخفقة قلب… وفي هذا الجو كان خروجه السريع سرعةً انفعالية في اتخاذ القرار، وقد لا يكون ذلك تهرّباً من المسؤولية، وحبّاً للراحة، وابتعاداً عن أثقال الرسالة ومشاكلها، فربّما كان الجو يتحرك في حالةٍ شديدة من الحيرة والغمّ والحزن، مما يريد معه أن يخرج من هذا الجوّ الخانق ليجد لنفسه ملجأً جديداً، أو موقعاً آخر للدعوة، أو لأي مشروعٍ جديد في هذا الاتجاه، وهو يظن أن الله لن يضيق عليه أمره في رزقه وفي حركته. وجاءت النتيجة غير ما كان يتصوره أو ينتظره، فالتقمه الحوت، بعد أن وقعت القرعة عليه، وعاش في ظلمات البحر وجوف الحوت وظلمات الهمّ والغمّ، وانفتحت أمامه من جديد آفاق إيمانه الواسع، فعاش روحيته مع الله في ابتهال وخشوع، وبدأ يتذكر لطف الله به، ورحمته له، ورعايته وتكريمه إيّاه من خلال ما اختصه به من رسالته وما سهّل له من سبل الحياة، وهداه إليه من وسائلها، وكيف خرج من دون أن يستأذن الله في ذلك، أو ينتظر ما يحدث لقومه، فانطلقت صرخته المثقلة بالهم الكبير الروحي والرسالي والذاتي، من كل أعماقه، في استغاثة عميقة بالله وحده لا سيما في مثل ظروفه التي لا يملك أحد فيها أن يقدِّم إليه شيئاً.

{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ أَنتَ} فلا ملجأ لأيّ هاربٍ أو ضائعٍ أو حائر إلاّ إليك، ولا ملاذ إلاّ أنت، فأنت القادر على كل شيء، والرحيم لكل مخلوق، والعليم بكل الخفايا والمهيمن على الأمر كله، والغافر لكل ذنب، والمستجيب لكل داع، والمغيث لكل ملهوف، والمفرِّج عن كل مهموم ومكروب… وليس لي غيرك أسأله كشف ضري والنظر في أمري، فأنت ربي وسيدي ومولاي وملاذي في كل الأمور، {سُبْحَانَكَ} إذ يختزن قلبي وعقلي ووجداني الإحساس بعظمتك في كل مواقع العظمة في مجالات التصور، وفي حركة القدرة في الواقع، في مظاهر الخلق والإبداع..، فيتحول ذلك إلى تسبيحٍ منفتح خاشعٍ مبتهلٍ إلى الله، {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فقد ظلمت نفسي في تحركي، أو تقصيري في سبيل الدعوة، من غير قصد، ولا عمد، وها أنذا ـ يا رب ـ راجع إليك بكل قلبي وعقلي وحياتي، لتتقبلني بكل لطفك ورضوانك ورحمتك، ولتكشف عني كل أجواء الحيرة والغمّ التي تغمرني بالآلام والمشاكل، فهل تستجيب لي؟ إنك أنت الذي تستجيب كل الدعوات لمن دعاك.

* * *

الله ينجّي يونس من الغمّ

{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} الذي كان يسبب له مشاكل في نفسه، وفي واقعه، في تطلعه نحو مستقبله، لأنه كان الإنسان الرساليّ الذي لم يتمرد من المواقع التي يريد الله له أن يكون فيها، بل كان ذلك من موقع الاعتقاد بأن المهمة قد انتهت بالفشل، من دون أن يكون لها بديل، {وَكَذلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} الذين عاشوا الإيمان في روحيتهم وفي فكرهم وفي حياتهم فكراً وديناً ورسالة ودعوةً وموقفاً للحياة، حيث أخلصوا لله العبادة. هؤلاء يتعهدهم الله برعايته فينجيهم من كل بلاء، ويفتح لهم أبواب الرحمة من أوسع الآفاق الرحيمة المنطلقة بالعفو والرضوان.

وهكذا نستوحي من هذه القصة الخاطفة، أن الله قد يبتلي الدعاة المؤمنين من عباده ورسله، في ما يمكن أن يكونوا قد قصّروا فيه، أو تهرّبوا منه من مسؤوليات، وأن الداعية قد يضعف أمام حالات الفشل الأولى، أو أوضاع الضغط القاسية، أو مشاكل الظروف الصعبة..، كنتيجةٍ لفكرةٍ انفعاليةٍ سريعةٍ أو لشعور حادٍّ غاضبٍ، ثم يلطف الله بهم بعد أن يتراجعوا عن ذلك ويرجعوا إليه، فينجيهم من بلائه، ويحوطهم بنعمائه، ويسبغ عليهم من ألطافه وآلائه، لئلا يتعقّد الخطأ أو الانفعال في شخصيتهم، لينطلقوا إلى الحياة من روحية الصفاء الروحي، والنقاء الشعوري من جديد، ليبدأوا الدعوة من حيث انتهوا، ويتابعوا المسيرة بعزم وقوة وإخلاص.

ثم نلتقي مع الموقف المبدئي، بالابتهالات الخاشعة الخاضعة لله المنطلقة من روحيّة الإحساس بالعبودية التي يشعر المؤمن معها بأن الله يلتقيه في مواقع الإنابة، مهما كانت الخطايا والذنوب، وأن الخطأ لا يتحوّل الى عقدٍة، بل إلى فرصةٍ للقاء بالله من جديدٍ في مواقع التوبة الحقيقية الخالصة التي يبدأ فيها التائب تاريخاً جديداً وصفحة بيضاء من حياته.

* * *

زكريا ينادي ربه

{وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} فقد بلغ زكريا من العمر عتيًّا ولم يرزقه الله ولداً، وكان يحب ألاّ يترك الحياة إلاَّ وله ولد يرثه ويرث من آل يعقوب، لتستمر به الرسالة، في كل الأجواء التي عاشها في الصلاح والخير وحركة الحياة… وهكذا كان يتمنى ألا يعيش الوحدة في الحياة، التي يعيشها الإنسان العاقر الذي لا يمتد ظله معه ولا يجد أحداً يستعين به في مواجهة الصعوبات، أو يستعين به على الواقع.. وهكذا نجد أن هذا العبد الصالح، قد عبّر عن تمنياته الروحية المتحركة من طبيعته الإنسانية في ما أودعه فيه من الخصائص التي يرتبط فيها بالجانب البشري، ليتكامل مع الجانب النبوي في حياته. وكان الدعاء الخاشع هو التعبير الصارخ الواعي عن لهفة الحياة في أعماقه..

{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} بعد أن بلغ به العمر مداه، وكاد اليأس أن يأخذ منه مأخذاً، {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} في ما يشبه المعجزة الخارقة للعادة، {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} التي كانت في سنٍّ لا يساعدها على الحمل.

{إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْراَتِ} لأن الخير لم يكن في حياتهم حالة طارئة، أو انفعالاً سريعاً، بل كان قيمةً روحيةً تتحرك في خط العقيدة وحركة الرسالة على أساس المسؤولية المنفتحة على الناس كلهم، الذين يحتاجون الخدمات على كافة مستوياتها الفكرية والروحية والحياتية… وبذلك كانت مواقع الخير فرصةً كبيرة، تلامس الفرح الروحي في شخصيتهم، كما لو كانت المسألة مسألة لذّة، أو شهوةٍ، أو منفعةٍ، ولذا يسارعون إلى اغتنام الفرصة التي تفتح أبواب الخير أمامهم.

وكان هذا الخير الذي يتحرك في عمق شخصيتهم، نتيجةً للإيمان بالله، والانفتاح عليه؛ وهم يعتبرونه أساساً للمسؤولية في مواجهتهم لقضايا الحياة التي يريد الله لها أن تنطلق من قاعدة الخير وتتحرك في طريقه، وتعيش في آفاقه؛ كما يريد لعباده أن يأخذوا به، وينفتحوا عليه، ويعملوا من أجل تأكيده كقيمة إنسانية رسالية مسؤولة، وذلك في أجواء اللقاء الكامل بالله، حتى يستلهم الإنسان روحيته في كل حال، في أوقات الرغبة والرهبة، لأن ذلك هو التعبير الحيّ عن الانشداد إلى الله في كل الأمور، بحيث يشعر الإنسان بأن الله هو مصدر القوّة والحياة، فليس هناك أيّ شيء ساكن أو متحرك في داخل شخصية الإنسان وفي خارجها إلاّ وهو مرتبط بالله، محتاج إليه، ما يوحي بالشمول في الإحساس بالعبودية المطلقة أمام الله. وهذا ما عاشه هؤلاء الذين يسارعون في الخيرات، {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} لأن الدعاء هو الأساس في التعبير عن الحاجة، بقطع النظر عن طبيعتها، في ما يرجوه الناس أو يخافونه، {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} في رهافة الحس الايماني في حياتهم، وفي عمق الشعور الروحي في ذواتهم، وفي انسحاقهم أمام عظمة الله، التي يتمثلونها في أفكارهم وقلوبهم.

* * *

عيسى وأمه مريم (ع)

{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} فعاشت العفة والطهارة كأقسى ما تكون العفة، وكأنقى ما تكون الطهارة، ما جعلها مثلاً حياً للإنسانة المؤمنة العظيمة التي عبدت الله فشعرت بمسؤولية العبادة في انسجامها مع حركة وجودها في الحياة، كأفضل ما تكون الأخلاق الفردية والاجتماعية، وبذلك كانت موضعاً لكرامة الله، في المعجزة الخارقة في حملها وولادتها وصبرها وقوّتها، {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} فحملت بعيسى(ع) من دون أن يمسها بشر، {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِين} فهي نموذج المرأة الكاملة في ساحات العفة والطهارة والقوّة والإخلاص لله سبحانه، وابنها يمثل آية إلهيّة في ولادته وكلامه، ويمثل حياة رسالية روحيّة رائعة في رسالته، وفي الكرامات التي أجراها الله على يديه في حياته.

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *