ابن خلدون، مؤرخ وعالم اجتماع
توفي في مثل هذا اليوم 16 مارس من سنة : 1406 – ابن خلدون، مؤرخ وعالم اجتماع.
– عبد الرحمان بن خلدون : ولد في 27 ماي 1332 – توفي 16 مارس 1406، ( 74 سنة).
– يُعد ابن خلدون عبقرية عربية متميزة، فقد كان عالمًا موسوعيًا متعدد المعارف والعلوم، وهو رائد مجدد في كثير من العلوم، فهو المؤسس الأول لعلم الاجتماع، ومجدد في علم التاريخ، وأحد رواد فن الترجمة الذاتية، كما أنه أحد العلماء الراسخين في علم الحديث، وأحد فقهاء المالكية المعدودين، ومجدد في مجال الدراسات التربوية، وعلم النفس التربوي والتعليمي، كما كان له إسهامات متميزة في التجديد في أسلوب الكتابة العربية.
– ولد “ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي” بتونس، ونشأ في بيت علم ومجد عريق، فحفظ القرآن في وقت مبكر من طفولته، وقد كان أبوه هو معلمه الأول. كما درس على مشاهير علماء عصره، من علماء الأندلس الذين رحلوا إلى تونس، فدرس القراءات وعلوم التفسير والحديث والفقه المالكي، والأصول والتوحيد، كما درس علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، ودرس كذلك علوم المنطق والفلسفة والطبيعية والرياضيات، وكان في جميع تلك العلوم مثار إعجاب أساتذته وشيوخه.
– وعندما انتشر وباء الطاعون عام 1348م بتونس، كان لهذا الحادث أثر كبير في حياة ابن خلدون؛ فقد قضى على أبويه كما قضى على كثير من شيوخه الذين كان يتلقى عنهم العلم في تونس، أما من نجا منهم فقد هاجر إلى المغرب الأقصى فلم يعد هناك أحد يتلقى عنه العلم أو يتابع معه دراسته.
– اتجه إلى الوظائف العامة، وبدأ يسلك الطريق الذي سلكه أجداده من قبل، والتحق بوظيفة كتابية في بلاط بني مرين، ولكنها لم تكن لترضي طموحه، فعينه السلطان “أبو عنان” ـ ملك المغرب الأقصى ـ عضوًا في مجلسه العلمي بفاس، فأتيح له أن يعاود الدرس على أعلامها من العلماء والأدباء الذين نزحوا إليها من تونس والأندلس وبلاد المغرب.
– ولكن سرعان ما انقلبت الأحوال بابن خلدون حينما بلغ السلطان “أبو عنان” أن ابن خلدون قد اتصل بأبي عبد الله محمد الحفصي ـ أمير بجاية المخلوع ـ وأنه دبر معه مؤامرة لاسترداد ملكه، فسجنه أبو عنان، وبرغم ما بذله ابن خلدون من شفاعة ورجاء فإن السلطان أعرض عنه، وظل ابن خلدون في سجنه نحو عامين حتى توفي السلطان سنة 1358م.
– ولما آل السلطان إلى “أبي سالم أبي الحسن” صار ابن خلدون ذا حظوة ومكانة عظيمة في ديوانه، فولاه السلطان كتابة سره والترسيل عنه، وسعى ابن خلدون إلى تحرير الرسائل من قيود السجع التي كانت سائدة في عصره، كما نظم الكثير من الشعر في تلك المرحلة التي تفتحت فيها شاعريته.
– وظل ابن خلدون في تلك الوظيفة لمدة عامين حتى ولاّه السلطان “أبو سالم” خطة المظالم، فأظهر فيها من العدل والكفاية ما جعل شأنه يعظم حتى نَفَسَ عليه كثير من أقرانه ومعاصريه ما بلغه من شهرة ومكانة، وسعوا بالوشاية بينه وبين السلطان حتى تغير عليه.
– فلما ثار رجال الدولة على السلطان أبي سالم وخلعوه، وولوا مكانه أخاه “تاشفين” بادر ابن خلدون إلى الانضمام إليه، فأقره على وظائفه وزاد له في رواتبه.
– ولكن طموح ابن خلدون كان أقوى من تلك الوظائف؛ فقرر السفر إلى غرناطة بالأندلس في أوائل سنة 1362م.
– وفي غرناطة لقي ابن خلدون قدرًا كبيرًا من الحفاوة والتكريم من السلطان “محمد بن يوسف بن الأحمر” (سلطان غرناطة) ووزيره “لسان الدين بن الخطيب” الذي كانت تربطه به صداقة قديمة، وكلفه السلطان بالسفارة بينه وبين ملك قشتالة بِطْرُه بن الهنشة بن أذقونش لعقد الصلح بينهما، وقد أدى ابن خلدون مهمته بنجاح كبير، فكافأه السلطان على حسن سفارته بإقطاعه أرضًا كبيرة، ومنحه كثيرًا من الأموال، فصار في رغد من العيش في كنف سلطان “غرناطة”.
– لم تدم سعادة ابن خلدون طويلا بهذا النعيم، إذ لاحقته وشايات الحاسدين والأعداء، حتى أفسدوا ما بينه وبين الوزير “ابن الخطيب” الذي سعى به بدوره لدى السلطان، وعندئذ أدرك ابن خلدون أنه لم يعد له مقام بغرناطة بل والأندلس كلها.
– وفي تلك الأثناء أرسل إليه “أبو عبد الله محمد الحفصي” (أمير “بجاية” الذي استطاع أن يسترد عرشه ) يدعوه إلى القدوم إليه، ويعرض عليه أن يوليه الحجابة وفاءً لعهده القديم له، فغادر ابن خلدون الأندلس إلى بجاية فوصلها في منتصف عام 1365م، واستقبله أميرها، وأهلها استقبالا حافلا في موكب رسمي شارك فيه السلطان وكبار رجال دولته، وحشود من الجماهير من أهل البلاد.
– وظل ابن خلدون في رغدة من العيش وسعة من الرزق والسلطان حتى اجتاح “أبو العباس أحمد” (صاحب قسطنطينة) مملكة ابن عمه الأمير “أبي عبد الله” وقتله واستولى على البلاد، فأقرّ ابنَ خلدون في منصب الحجابة حينا، ثم لم يلبث أن عزله منها.
– فعرض عليه الأمير “أبو حَمُّو” (سلطان تلمسان) أن يوليه الحجابة على أن يساعده في الاستيلاء على “بجاية” بتأليب القبائل واستمالتها إليه؛ لِمَا يعلمه من نفوذه وتأثيره، ولكن ابن خلدون اعتذر عن قبول الوظيفة، وعرض أن يرسل أخاه يحيى بدلا منه، إلا أنه استجاب إلى ما طلبه منه من حشد القبائل واستمالتها إليه. ولكن الأمور انتهت بهزيمة “أبي حمو” وفراره، وعاد ابن خلدون إلى الفرار من جديد بعد أن صار مطاردًا من كل حلفائه.
– ترك ابن خلدون أسرته بفاس ورحل إلى الأندلس من جديد، فنزل في ضيافة سلطانها “ابن الأحمر” حينًا، ثم عاد إلى المغرب مرة أخرى، وقد عقد العزم على أن يترك شؤون السياسة، ويتفرغ للقراءة والتصنيف.
– اتجه ابن خلدون بأسرته إلى أصدقائه من “بني عريف”، فأنزلوه بأحد قصورهم في “قلعة ابن سلامة” بمقاطعة وهران وقضى ابن خلدون مع أهله في ذلك المكان القصيّ النائي نحو أربعة أعوام، نعم خلالها بالهدوء والاستقرار، وتمكن من تصنيف كتابه المعروف “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، والذي صدّره بمقدمته الشهيرة التي تناولت شؤون الاجتماع الإنساني وقوانينه. وقد فرغ ابن خلدون من تأليفه وهو في نحو الخامسة والأربعين بعد أن نضجت خبراته، واتسعت معارفه ومشاهداته.
– وأراد ابن خلدون العودة إلى تونس فكتب إلى أبي حمّو يستأذنه ويرجو صفحه، فأذن له السلطان، فعاد إلى مسقط رأسه، وظل عاكفًا على البحث والدراسة حتى أتم تنقيح كتابه وتهذيبه.
– وخشي ابن خلدون أن يزج به السلطان إلى ميدان السياسة الذي سئمه وقرر الابتعاد عنه، فعزم على مغادرة تونس، ووجد في رحلة الحج ذريعة مناسبة يتوسل بها إلى السلطان ليخلي سبيله، ويأذن له في الرحيل.
– وصل ابن خلدون إلى الإسكندرية في 8 من ديسمبر 1382م فأقام بها شهرًا ليستعد لرحلة السفر إلى مكة، ثم قصد ـ بعد ذلك ـ إلى القاهرة ، فأخذته تلك المدينة الساحرة بكل ما فيها من مظاهر الحضارة والعمران.
– ولقد لقي ابن خلدون الحفاوة والتكريم من أهل القاهرة وعلمائها، والتف حوله طلاب العلم ينهلون من علمه، فاتخذ من “الأزهر” مدرسة يلتقي فيها بتلاميذه ومريديه، وقد تلقى عنه عدد كبير من الأعلام والعلماء، منهم “تقي الدين المقريزي”، و”ابن حجر العسقلاني”.
– كما لقي “ابن خلدون” تقدير واحترام “الظاهر برقوق” (سلطان مصر) الذي عيّنه لتدريس الفقه المالكي بمدرسة القمصية، كما ولاه منصب قاضي قضاة المالكية، ولقبه “ولي الدين” فلم يدّخر ابن خلدون وسعًا في إصلاح ما لحق بالقضاء ـ في ذلك العهد ـ من فساد واضطراب، وقد أبدى صرامة وعدلا شهد له بهما كثير من المؤرخين، وكان حريصًا على المساواة، متوخيًا الدقة، عازفًا عن المحاباة.
فجلب له ذلك عداء الكثيرين فضلا عن حساده الذين أثارتهم حظوته ومكانته لدى السلطان، وإقبال طلاب العلم عليه، ولم يُبدِ ابن خلدون مقاومة لسعي الساعين ضده، فقد زهدت نفسه في المناصب خاصة بعد أن فقد زوجته، وأولاده وأمواله حينما غرقت بهم السفينة التي أقلّتهم من تونس إلى مصر بالقرب من الإسكندرية، قبل أن يصلوا إليها بمسافة قصيرة.
– ترك ابن خلدون منصبه القضائي سنة 1385م بعد عام واحد من ولايته له، وما لبث السلطان أن عينه أستاذًا للفقه المالكي بالمدرسة “الظاهرية البرقوقية” بعد افتتاحها سنة 1386م.
– ولكن وشايات الوشاة ومكائدهم لاحقته حتى عزله السلطان، واستأذن ابن خلدون في السفر إلى فلسطين لزيارة بيت المقدس، وقد بجّل ابن خلدون رحلته هذه ووصفها وصفًا دقيقًا في كتابه “التعريف”.
– وحينما جاءت الأنباء بانقضاض جيوش “تيمور لنك” على الشام واستيلائه على “حلب”، وما صاحب ذلك من ترويع وقتل وتخريب، خرج “الناصر فرج” من القاهرة في جيوشه للتصدي له، وأخذ معه ابن خلدون فيمن أخذهم من القضاة والفقهاء.
– ودارت مناوشات وقتال بين الفريقين، ثم بدأت مفاوضات للصلح، ولكن حدث خلاف بين أمراء “الناصر فرج”، وعلم السلطان أنهم دبروا مؤامرة لخلعه، فترك دمشق ورجع إلى القاهرة.
– وذهب ابن خلدون لمقابلة “تيمور لنك” يحمل إليه الهدايا، ويطلب منه الأمان للقضاة والفقهاء على بيوتهم وحرمهم، فنجح في مهمته.
– وعندما عاد ابن خلدون إلى مصر سعى لاسترداد منصب قاضي القضاة، حتى نجح في مسعاه، ثم عزل منه بعد عام في فيفري 1402م، ولكنه عاد ليتولاه مرة أخرى في جانفي 1403م انتهت بوفاته في 16 مارس 1405م عن عمر بلغ ستة وسبعين عامًا.
– من أهم كتبه ومؤلفاته :
* مقدمة ابن خلدون
* تاريخ ابن خلدون، وعنوانه : كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
* لباب المحصل في أصول الدين.
* شفاء السائل لتهذيب المسائل، نشره وعلق عليه أغناطيوس عبده اليسوعي.
* التعريف بابن خلدون ورحلاته شرقا وغربا (مذكراته).
# أسامة الراعي
متحصل على :
شهادة الأستاذية في التاريخ.