حامل التابوت”: مصالحة مع الخلود
“حامل التابوت”: مصالحة مع الخلود
بقلم: أنيس بن دالي
في كتاب “حامل التابوت” لمحمّد بليغ التّركي، يظهر للعيان أسلوب سردي أخّاذ، يروي قصّة رحلة تتجاوز حدود الحياة والموت. إنّ هذه الرّواية المتعالية يشرق منها أكثر من كشْف، إذ هي تمثّل مصالحة عميقة مع الخلود في بُعده الرّمزي وعودة خلّاقة لمعنى الموت، كيف “لبسنا ثوْبَ العيش” وإلى أين نحن ماضون؟
إنّ “جنّة الشيطان” كما قدّمها لنا محمّد بليغ التّركي في كتابه كعالم صوفي، أصبحت إلى حد ما بُعدا لا يخلو من القداسة لهذه المصالحة باعتناقه منهج روحاني جرّنا إليه الكاتب، أصبحت فيه هذه الجنّة المكان الذي تُطرح فيه الأسئلة البنّاءة عن طبيعة الحياة والموت ومعنى الوجود وأين وجدت صداها:” في جنّة الشيطان، توجد “حالات خاصّة” ليسوا جلّادين ولا مساجين. كانت هذه الحالات الخاصّة أشخاصا مشهورين قبل أن ينزلوا بجنّة الشيطان. تركهم أصحابُ الدار يواصلون لعب أدوارهم القديمة، تركوهم يستمتعون بطمعَهم الذي لا ينتهي وبكذبتهم التي صدّقوها…بين هؤلاء الباحثين عن المجد، قابل السجين الجديد عجوزا كانت ملكة جمال تعرض ما تبقى منها لسجناء يزحفون، وقابل ملاكما مريضا يضرب الفراغ، وقابل طبيبا نفسانيا وضع فوق رأسه سروالا داخليا يتفحّص المساجين، وقابل مطربة تغني لرجل مخدّر نائم وكانت تسبّه لتوقظه حين يغفو… (الفصل 1)
في هذا البحث المضني، تلعب الشخصيات المثاليّة، ملائكيّة أو شيطانية كانت، دوْرا رهيبا حين تدلّ الكاتب على فهم أعمق لنفسه وبالتالي لأنفسنا. في الفصل 5، قابل حاملُ التابوت امرأة دعته لقصرها فرافقها وعرف بعد لقائهما أنّها خادمة الشيطان ولكن الأهم من ذلك أنّها باحت له بِسرّ يهمّه آخر هذا الحوار الذي دار بينهما:
تحاول أن تظهر أنّك رقيق معي، أليس كذلك؟ تجدني عجوزا أو حزينة ربّما؟ قالت له ونزعت حجابها وحلّت شعرها الأبيض.
ماذا …؟
أفعل ما تعلّمتُه لأعجبك ! أجابته وهي تلاعب يده، لا ترغب في العجائز؟
سأرحل!!!
أعندك تخيلات أخرى؟ أُخيفك؟ قالت له مكشّرة. لستُ عدوانيّة، لِمَ سحبت يدك، لن آكلك، طاحت أسناني التي تركتُها في النفوس الميّتة!
لا أخشاك، لا تنتظري شيئا منّي!!!
أَعِشْقي لك خطيئة؟ لمْ تخطئ أبدا أنت؟ أنا أذنبت، كثيرا حتّى، تعرف لِمَ؟ لأنّي علمتُ أنّ الله سيغفر لي ! وهكذا، كيف تجدني؟ سألته وهي تريه وجها آخر.
وفي الفصل 7، يلتقي حامل التابوت مع مُخرج الكابوس صديقه القديم الذي “علّمه الحرام” فيحدّثه عن أعداءه :”أترى كلّ هؤلاء، أنا الذي أضحكهم وأبكيهم…أهبهم كلّ ما يشتهون حتّى يعتقدوا أنهم صاروا أربابا…أيّها الخاسر الأكبر، إنّي أسمع الصخر يبكي جثّتك، كم أنت بائس ! يوما ما، أصدقائي هؤلاء سيدفعون فاتورة التسلية التي أخرجتُها لهم !”
ويُظهر العنوان المُلهم “حامل التابوت” الثقل الرمزي الذي يحمله كلّ منّا، الموت في ثقله الذي لا يمكننا التخلّص منه. لكن السرد لا ينتهي هنا فهو يتحوّل إلى تأمّل حول معنى الموت وإدراك للخلود الذي “نقّط” وجودنا. فأيّ انتفاض حقيقيّ أن نعرف أنّ الموت أبعد من أن يكون نهاية، بل هو عودة إلى البداية ! ففي الفصل 3 حين رجع حامل التابوت إلى بيته، وجد هناك مأتما فجلس مع الحاضرين وسأل أحدهم: من الميت؟ فأجابه: أنت الميت، نحن هنا لنحمل جثّتك. (…) حين تأمّل هؤلاء الأغراب، كان لهم نفس وجهه مع فرق بسيط. كان هؤلاء الأشخاص “هو” حين كان طفلا، شابا، “فرحا مسرورا”، تائها، مكسور الجناح… أبصر العائدُ طفلا يبكي لأنّه ينتعل صندلا يكشف أصابع قدميْه ورأى الشابَ الباحث عن الحقيقة الذي يضع عمامة والموظفَ الحريص على وضع ربطة عنق فرضها الاستنساخ المهني ورأى الثائرَ الذي يلبس كالفقراء…رحلت هذه الشخصيّات يحملن التابوت الذي كنّ ينتظرنه، أراد العائد أن يتبعهن لكنّه لم يدركهن. بعد خروج الدفينة، حمل تابوتَه وتاه…
إنّ مفهوم التابوت الذي حمله الكاتب يخلق بُعدا زمنيا محيّرا، فرحلته في تابوته ليست خطّية بل هي سلسلة متواصلة للحياة والموت والانبعاث. فالموت هو حلقة جديدة ودعوة للتساؤل حول الطبيعة الدوريّة لوجودنا.
ويتمثّل سرّ سيرة حامل التّابوت في الجواب النهائي للكاتب الذي يتجاوز السياق السردي البسيط ليصبح إعلانا حول حقيقة الواقع:” ساعة موت حامل التابوت لم تحن بعد. أبهر العائدُ الآخرين بسرّ عظيم…ذلك السر هو أن تكون وحدك ضدّ الجميع لأنّك عرفتَ سرّ “الهاء” في اسم الله. كلّ ما أعدّوه له من أصناف العذاب لم يحدث. كانوا سيضربونه كحمار شد وثاقه وهم يلعبون الموسيقى التي يحبّها، كانوا سيحرقون في يديه صورة أمّه، لا شيء من كلّ هذا حدث…لمْ ييأسْ ولمْ يقلْ “بلغتُ نقطة اللاّعودة !!! “.” (الفصل 18)
في هذا الكون الذي لا يحرّكه إلاّ الله ومحبّته، الموت ليس نهاية بل رجوع عارف إلى الأصل الأوّل. إنّ “حامل التابوت” ليس فقط رواية بل تأمّل رُوحه شِعْر حول الحياة، الموت ومعنى وجودنا. في الفصل 17 من الرواية، ترك حاملُ التابوت لصاحبته رسالة كتب فيها وصاياه لابنه:
إذا سألت نفسك لِمَ كلّ هذا الشر في هذا العالم أقول لك، حتى لا نحب الدنيا كما أحب يعقوبُ يوسف أو أحب إبراهيمُ إسماعيل أو كما نحب طفلة ! بالوجد يبصر القلب سيّده.
حين حرمك ما ترغب فيه، أعطاك كلّ شيء: ما يريده هو لك.
الرغبة تذلّ طالبها والحرمان هو مرضعة القلوب الحيّة.
أن تنتظر شيئا من الآخرين ذلك هو الفقر المدقع.
أن تبكي من ذنب خير من أن تفرح بتديّن.
حين يكون كلّ العالم ضدّك فاعلم أنّه حماك دوما.
حين يريك سرّ الغيب، كن حامدا وحين يريك مساوئ الآخرين كن رحيما.”
إنّ في استكشاف المصالحة مع الموت، يهب هذا الكتابُ للقرّاء سيرة تحوّليّة ويدعوهم إلى تأمّل الخلود الذي يُرفع عنه الحجاب عند موت العارف.
أنيس بن دالي
مخرج سينمائي وكاتب