رواية حامل التّابوت…قبضة من نوره بقلم : الباحث الصّوفي محمّد الوليد حشيشة شرح رواية “حامل التّابوت” لمحمّد بليغ التّركي

شارك اصدقائك الفايسبوكيين

الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه وآتاهم من لدنه علما لا ينبغي لأحد بعد أنبيائه والصّلاة والسّلام على بداية التجلّي ونهايته سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم وعلى من اقتفى آثاره ودلّ على الله بدلالته وحسن إشارته. هذا وقد حظيت بتقديم وشرح رواية “حامل التابوت” للكاتب محمّد بليغ التّركي الصّادرة سنة 2023 عن دار سارّة للنشر بالإشارة والعبارة. وبعد أن أطلقت جواد فكري في هذه الرّواية “حامل التابوت” ألفيتها سرّا جليلا وإلهاما فهي عبارة عن جوهرة فريدة لما تحتوي ظاهرا على رحلة وجوديّة لأي إنسان يحيا مواقف مع بشر من كلّ الأصناف وباطنا على مسلك من مسالك الإشارة على طريق الصوفيّة، سلك فيه مؤلفه الأسلوب العجيب، تتغذى الرّوح بإشارته.

والتصوّف مشتق من تصفية الباطن، وهو أشرف المقامات لكونه مقام الإحسان وهو علم مستمد من الكتاب والسنّة. عن سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منّا أحد، حتّى جلس إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمّد… أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:” الإسلامُ أن تَشهَد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمّدا رسولُ اللّه، وتقيمَ الصلاةَ، وتؤتي الزّكاة، وتَصومَ رَمضانَ، وتَحج البيتَ إن استطعتَ إليهِ سَبيلا”، قال: صدقت، فعجبنا له، يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان ، قال: ” أن تؤمِنَ باللّه، وَملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليومِ الآخِرِ، وتؤمِنَ بالقَدَرِ خيرِهِ وشَرّه”، قال: صدقت . قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: ” أن تَعبُدَ اللّهَ كأنّكَ تَراهُ، فإن لَم تَكُن تَراهُ فإنّهُ يَراكَ”، قال: فأخبرني عن السّاعة، قال:” ما المَسؤولُ عنها بأعلمَ من السائلِ ” قال: فأخبرني عن أماراتها، قال:” أن تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها، وأن تَرى الحُفاة العُراةَ العالَةَ رعاء الشاءِ يَتَطاوَلونَ في البُنيان”، ثم انطلق فلبث مليا ثم قال:” يا عمر… أتَدري مَن السائلُ؟” قلت الله ورسوله أعلم، قال:” فإنّهُ جبريلُ أتاكُم يُعَلّمَكُم دينَكُم” (رواه مسلم). فالحديث يذكر مقام الإحسان وهو أعلى مقام وهو الجانب الرّوحي القلبي؛ وهو أن تعبد الله كأنّك تراه، فإِن لم تكن تراه فإِنّه يراك، وما يظهر عند ذلك من أحوال وأذواق وجدانيّة، ومقامات عرفانيّة، وعلوم وهبية، وقد اصطلح العلماء على تسميته بالحقيقة، واختص ببحثه الصوفية.
في هذا الحديث علم كثير يستحق أن تكتب فيه الكتب، لكن ما نود ذكره هنا هو أنّ أساس العبادات هو مراقبة الله تعالى فإنّه يَرى ولا يُرى، ومن عبد الله وكأنّه يرى الله تعالى فقد بلغ مرتبة الإحسان، وهذه المراقبة لا تكون بالدعوى والكلام بل هي في قلب المرء، فمن راقب الله في سرّه هداه الله إلى الأعمال الصالحة ويسّرها له، فمراقبة النفس ما هي إلاّ مجاهدتها أن ترتكب ما لا يرضاه الله. قال الله تعالى في سورة العنكبوت، الآية 69: والذينَ جاهَدوا فينا لنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا. وقال الله تعالى في سورة الشمس، الآيات من 7 إلى 10: ونَفۡس وَمَا سَوَّىٰهَا فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا. و في هذا العلم قال أبوالحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه: من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصرّا على الكبائر وهو لا يشعر. وقال الصقلي في كتابه “نور القلوب في العلم الموهوب”: كلّ من صدّق بهذا العلم فهو من الخاصّة، وكلّ من فهمه فهو من خاصّة الخاصّة، وكلّ من عبّر عنه وتكلّم فيه فهو النجم الذي لا يدرك، والبحر الذي لا يترك.

الوجه الباطني للرّواية:
“حامل التابوت” رواية رمزيّة بها إشارات صوفيّة للكاتب محمّد بليغ التّركي. ومدار هذه الرّواية أنّ إنسانا وهو حامل التابوت وجد نفسه في مكان اسمه جنّة الشيطان وكان هروبه منها تيه مداره يدور حول إثبات ونفي الأنا. وقد عاش عديد التجارب مع أصناف مختلفة من البشر، قابل جلاّدين بلباس الكهّان (الفصل1) ومشاهير صدّقوا كذبة المجد (الفصل2) ونساء بأسماء رجال ورجال بأسماء نساء (الفصل3) وأصحاب نفوذ متنكّرين لهم أذناب (الفصل7) ومصلّين يقرؤون غير القرآن في صلاتهم (الفصل9) وغيرهم…وأمكن لحامل التابوت بعد صراع الانعتاق من أسر الجوارح والنفس بمساعدة صاحب العمامة أحد شخصيات الرواية وصولا الى معرفة ذاته. والسؤال المحوري من هو الحامل؟ ومن هو المحمول؟ وهل يكون الحامل والمحمول شيئان لواحد؟ ألا تكون الرّوح؟ فما هو مراد الكاتب من عنوان روايته “حامل التابوت”؟ خلافا لما يفهمه العامّة الذين وقفوا عند اللفظ، فالكاتب أخذ منهج الصوفيّة وفهمهم على قدر مقاماتهم، فالكلمة الواحدة الدالة على معنى مخصوص، قد يفهم منها معان كثيرة لا تحصى وهذا العلم لا يتعاطاه علماء الرسوم ولا فقهاء الأحكام، إنّما هو عطاء ربّاني ومنحة إلهيّة لمن يشاء من عباده. وخلافا لما فهمه بعض قرّاء الرّواية الذين وقفوا عند معنى اللفظ، مفاده أنّ التابوت هو نعش الانسان الذي يحمل عليه الميت وهناك من فهم التابوت هو العهد القديم الذي أخذه منّا الله في عالم الأرواح اعتمادا على قول الله عز وجل في سورة الأعراف الآية 172: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. وغير بعيد عن هذا المفهوم هناك من فهم أنّ التابوت هو الصندوق الحامل للوصايا العشر لبني اسرائيل. فحامل التابوت عند أهل الذوق الصوفية هو القلب، مركز تجلّي الله والتابوت هو العهد القديم السر الالهي. ورد في الحديث: إنّ الله لا ينظر الى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم. وجاء في الحديث القدسي: لم تَسعْني أرْضِي ولا سَمائي، وَوَسِعَنِي قلبُ عبدي المؤمنِ. فالقلب يمثل المعرفة الداخلية، فجوهر الإنسان نقي وقديم وضعه الخالق عز وجل فلا مجال للخطأ والاجتهاد، فهذا الجوهر لا تشوبه شائبة والمعرفة المكتسبة قد تشوبها شوائب لاختلاف الآراء ودرجات العلم؛ فالمعرفة لها أشكال ثلاث، معرفة دنيوية وهي في جوهرها اكتساب للمعارف الحياتية ومعرفة دينيّة وتقوم على معرفة الأحكام وتفاصيل العبادات والشعائر، أمّا أهم معرفة التي أشار إليها الكاتب محمّد بليغ التّركي في كتابه فهي معرفة صفوة الصفوة التي تقود إلى تجلّي الرّوح. وقال حكيم الصوفيّة ابن عطاء الله السكندري: شتان بين من يستدلّ به ويستدلّ عليه، المستدل به عرف الحق لأهله وأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا فمتى غاب حتى يستدلّ.
وتتمة للعنوان”قبضة من نوره” هو عند القوم كناية عن القبضة النورانيّة أو نقول القبضة المحمّديّة، قال صلى الله عليه وسلّم في حديث يرويه عن ربّه: لمّا أردت أن أخلق الخلق قبضت قبضة من نوري فقلت لها كوني محمّدا ثم خلقت من نور محمّد كل الأشياء. إنّ القبضة المحمّدية بها فرعان يمينا وشمالا أو نقول جمالا وجلالا، قال الله تعالى في سورة الواقعة: وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ثمّ قال وأصحاب الشّمال ما أصحاب الشّمال. فنفهم أنّ من محمّد صلّى الله عليه وسلّم كان ما كان، وقال محمّد صلّى الله عليه وسلم: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين. و في رواية ” بين الرّوح و الجسد “. وتوسّل آدم بسيّدنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام فقال الله له: لولا محمّد ماخلقتك. وفي حديث جابر، قال صلّى الله عليه وسلّم: أوّل ما خلق الله نور نبيّك يا جابر. فالحقيقة المحمّديّة من ناحية صلتها بالعالم هي مبدأ خلق العالم وأصله من حيث أنّها النور الذي خلقه الله قبل كل شيء، وخلق منه كل شيء ( حديث جابر)، وهي أول مرحلة من مراحل التنـزّل الإلهي في صور الوجود ، وهي من هذه الناحية صورة ( حقيقة الحقائق) ومن ناحية صلتها بالإنسان، يعتبر ابن عربي الحقيقة المحمّدية منتهى غايات الكمال الإنساني، فهي الصورة الكاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه حقائق الوجود. ومن الناحية الصوفيّة، هي المشكاة التي يستقي منها جميع الأنبياء والأولياء العلم الباطن .
عتبة أخرى من عتبات هذه الرّواية سأتحدّث عنها وهي لوحة غلاف الكتاب بإمضاء الرسّام الكبير الهادي التّركي رحمه الله(1922-2019) كان هذا الفنّان يؤمن بحياة الشكل وليس بشكل الحياة والفن عنده كينونة وليس رتبة اجتماعية وهو القائل: أنا أأكل الطّعام وأمشي في الأسواق وحفظنا عنه مقولة : الفن هو طائر يصعب إمساكه لكن يحدث أن يترك بين أصابعنا البعض من ريشه … إنّ لوحة الغلاف تحمل في طيّاتها معان نفيسة يصعب إحصاؤها لما فيها من الإشارة والأسرار على طريق الصوفيّة، فلوحة الفنّان الهادي التّركي باحت بسرّ من أسرار الرواية، فهي ترمز إلى فقدان الأم لابنها وهي إشارة إلى الرّوح النقيّة البازغة المضيئة على القلب المريض إذ استحوذ عليه الحس، يمرض وربّما يموت، فقلب الإنسان كالمرأة الصقيلة ينطبع فيها الوهم والظلمة؛ ثمّ لمّا وجدت الأم ابنها وهي إشارة إلى تعافي القلب من الوهم والظلمة، انطبعت في مرآته أنوار الإيمان والإحسان، وأمّا أولاد الشارع الأيتام الذين آوتهم الأم فهم في رمزيّتهم يمثلون الجوارح السبعة الذين تطهروا من المعاصي والمخالفات الشرعية فتخلقوا بأخلاق الأنبياء والصّالحين.
ومنذ الفصل الأوّل تأسرك لغة الإشارات فيشير الكاتب إلى قصّة إبليس مع الإنسان والغيرة وحيازة الحب الإلهي، فإبليس شعر وكأنّ محبة الله له قد نقصت حين رأى حب الله لآدم وحواء. وفعلا تقول الروايات العرفانية بأنّ إبليس كان أكثر الملائكة عبادة وكان يسمى عزازيل واسمه مشتق من اسم الله العزيز. وكان من أقدم المخلوقات وكان عارفا بالله وعالماً بكل أسرار الطبيعة! فشخصية “تاجر الأحلام” في الرواية هي إشارة إلى إبليس، فكلّما كان في قلب حامل التابوت ظلمة من الهوى بسبب ارتكاب الذنوب كان لتاجر الأحلام أو الشيطان ظهور في مجال الوسوسة، فالسالكون الذين نجوا من ظلمات النفس لا يقدر الشيطان أن يقرب منهم. في هذه الرّواية، الشيطان هو صديق قديم لحامل التابوت، يظهر له في أحلك ما يعيشه ، في المرض والتيه والنسيان، وحتّى في العبادة، ويزيّن له الدنيا ويعرض عليه ما أبدع في تزييفه في ما سمّاه الكاتب في الفصل 1 “جنّة الشيطان”، بيوتها كما وصفها المؤلّف في الفصل 5 من زجاج ليرى المارّة حياة ساكنيها المشاركين في مسابقة العار أو صارت كما تحدّث عنها في الفصل 4 اصطبلات لبيع اللحم الفاسد رُبطت أمامها حيوانات أصيلة لخداع الحرفاء. يقول القرين لحامل التابوت حين وجد نفسه في حفل تقسيم الغنائم في قصر الشيطان في الفصل 7 :” أترى كلّ هؤلاء المحتفلين، أنا من أُضحكهم وأُبكيهم. وهبتهم كلّ ما يحتاجونه حتّى ظنّوا أنهم صاروا أرباب العالم…إنّي أسمع الصّخر يبكي جثّتك يا مسكين! يوما ما على عبيدي أن يدفعوا فاتورة هذه التسلية التي أخرجتها لهم.” وفي الفصل 5 حين وجد تاجر الأحلام صديقه القديم ينتظر سيّارة أجرة قال له ساخرا:” كنتَ تلميذا نجيبا، مشروعَ رجل صاحب نفوذ وها أنّي أراك حائرا تقضم أظافرك تنتظر سيّارة أجرة لا تأتي أمّا الناجون أصحابك لا زالوا يحيّونك لأنّكم لعبتم الكرة معا في صغركم…” قال الله تعالى في سورة الحجر، الآية 42: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً. نسب الله بقوله “عِبَادِي” للخواصَ من المؤمنين الذين هم أهل الحفظ والرّحمة والرعاية من قِبَلَ الله، وهم أهل الله الذين اتبعوا شيخا عارفا فإنّ وساوسَ الشيطان لا تضرُّهم لالتجائهم إلى الله، ودوام استجارتهم بالله، ولهذا فإنّ الشيطان إذا قَرُبَ من قلوب أهل المعرفة احترق بضياء معارفهم. ويقال إنّ فرار الشيطان من المؤمنين أشدُّ من فرار المؤمنين من الشّيطان. والخواص من عباده هم الذين لا يكونون في أَسْرِ غيره، وأَمَّا مَنْ استعبده هواه واسترقته كل خسيسة ونقيصة فلا يكون من جملة خواصه…
يعمد تاجر الأحلام في الفصل11 إلى التنكّر في شخصية رجل الدّين الصّالح الذي يحب البشر، بعد الطوفان الذي ألقى بسكّان جنّة الشيطان في الشوارع الموظفين والمومسات والمساجين والأنذال والسكارى والمحتفلين وعشّاق الموضة وسيّاراتهم الفاخرة وأثاثهم الذي يغيرونه مرّتين كل سنة ومراحيضهم المرصّعة بالذهب، وأيقنوا أنّه لا أحد يقدر أن يرفع عنهم البلاء غير تاجر الأحلام، حين صاحوا في الشوارع “الرّحمة!” خاطبهم تاجر الأحلام قائلا” سنعود معا إلى الجنّة! رجالي سيعطونكم الطعام والماء الزلال والحلوى واللُعب ليسكتوا أولادكم(…)وليتزوّج ابن الأثرياء من ابنة الفقراء ولا تحتقروا الضعيف!”
في رواية حامل التابوت، تاجر الشيطان هو المحسن الذي كفل من سمّاها الكاتب “خادمة الشيطان” وهي إشارة إلى النفس الأمّارة بالسوء. في الفصل 5 من الرّواية، استضافت حامل التابوت إلى قصرها لتقضي معه الليل ولكنه يمتنع. ويصوّرها الكاتب في الفصل 14 منهكة، تلبس فستان زفاف ممزّق كلّه أدران، تجرّ حاوية قمامة كبيرة، ذليلة كعادتها لسيّدها… والنفس الأمّارة أوّل طريقها هو اللسان لأنّه ترجمان لها، أوّله الكذب، ثمّ الغيبة، ثمّ النميمة، ثمّ السب، ثمّ الاستهزاء وسرعة الغضب؛ ولا شك أنّ هذه الأوصاف دليل على وجود النفس، ومنها داخلية يعلمها الإنسان من نفسه، وذلك كالرياء والحسد والبغض والعداوة والغش والخديعة والكبر والكسل على الطاعة ومجالسة العوام وحب التكاثر في الأموال، فإن وجد الإنسان واحدة منها بان تحقّقها في نفسه فينبغي أن يصدق مع ربّه ويعجل في التطهر وصفاء الأحوال مع الله. في الفصل 17 يوصي حامل التابوت ابنه: الرّغبة تذلّ طالبها والحرمان هو مرضعة القلوب الحيّة…أن تبكي من ذنب خير من أن تفتخر بطاعة…

الوجه الثاني للرّواية: اللّقاء مع الرّوح
ذكر الكاتب شخصيّة صاحب العمامة في الرواية وفيه إشارة لصحبة شيخ عارف للوصول إلى الله، وقد يفهم من ذلك وجوب اتباع إمام الوقت الشيخ القطب العارف بأمراض النفوس والقلوب، ويكون عارفا بمسالك الطريق إلى الله ويكون له سند متحقق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ظهر صاحب العمامة في الرّواية ليرشد حامل التابوت إلى الطريق إلى الله بإحياء روحه الطاهرة المسجونة بالنفس والجوارح بإعطائه أقوى إشارة في الرّواية في الفصل 3 وهو نبع الماء من يده ليصبّه على الفتاة المحتضرة وهي ترمز إلى روحه لتحيا حياة أبدية. والماء النّابع هو الماء المطلق الذي هو كناية عن الحقيقة، ويكون شفاء المريض بواسطة شيخ مقبول عند الله عز وجل، قال الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله تعالى:
توضأ بماء الغيب إن كنت ذا سر … وإلا تيمم بالصعيد، وبالصخر
وقدم إماماً كنت أنت إمامه … وصل صلاة الفجر في أول العصر
فهذى صلاة العارفين بربّهم … فإن كنت منه فانضح البر بالبحر
وإنّ منابع هذا الماء قلوب العارفين وهو ماء الغيب والمراد به الصفاء وهو الذي يصح التطهر به. وحاصل الأمر أنّ الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: نجس وطاهر وطهور، فصاحب النجس هو الذي اختلط بمائه محبّة الدنيا والإفراط في الميل إليها، وصاحب الماء الطاهر هو المختلط بمحبّة الآخرة والإفراط في محبّتها حتى أدبر بذلك عن محبّة الله، وصاحب الماء الطهور هو الذي لا يخالطه شيء، لا طلب لما سوى الله، فعبادته لله بالله، فهذه حقيقة صفاء الماء وطهارته. وقبل الاغتسال بهذا الماء كان حامل التابوت جنبا أي بعيدا عن الله لأنّ الجنب قبل اغتساله لا يصلح لدخول الحضرة أو مجالسة الحق إلاّ إذا تطهّر من جنابة وجوده ومن نسبة الوجود لما سوى الله ويكون ذلك الغسل تخلّيا والجلوس مع الحق تحلّيا.
وهنا الماء النابع من يد حامل التابوت هو ماء الغيب، فالمراد بالوضوء طهارة أعضاء الصفات القلبية من النجاسات المعنوية، وبعد إزالتها أن يتمسك بالدليل وهو الشيخ العارف، فهو البرهان الذي ينهض به إلى مقام الشهود والعيان. كل ألم البدن إلى زوال إلاّ ألم الحجاب فإنّه يزول بإذن الله، أمّا الحجاب الذي يحجب الحقيقة عن الرّوح فتبقى حبيسة البدن هو أشد الألم، ذلك أنّ الرّوح تتوق إلى معرفة الحقيقة المحتجبة خلف شهوات الجسد ومواطن اللذّة، فقد جمعت بين جناحيها نور الملائكة وظلمة الشياطين، شأنها شأن العامّة من الناس ممن وقفوا حائرين أمام الحجاب لا يرون نور الحقيقة وليتها كانت من الخاصّة ممن ينهلون نور الحقيقة الأزلي ولكنها تحكم العقل الذي هو لسان الظاهر ولا تحكم الذوق لسان الباطن الكاشف للحجاب. ونعيم الرّوح وعذابها إنّما يكون بشهود ربّها واحتجابها وذلك بعد تخلّصها من عالم الأشباح وترقّيها إلى عالم الأرواح. وقد انتهج الكاتب منهج أئمّة التصوّف بتوظيفه للغة الإشارات والرّموز مثل الحلاّج، ففي الفصل 3 يرجع حامل التابوت إلى بيته وفيها إشارة إلى فنائه بموت الأنا وإشارة إلى الرّوح، هناك وجد مأتما فجلس مع الحاضرين وسأل أحدهم: من الميت؟ فأجابه: أنت الميت، نحن هنا لأجلك. والحاضرون في المأتم هم الجوارح، وهنا إشارة إلى أنّه هو الطالب والمطلوب. وجاء في الحديث: من عرف نفسه عرف ربّه. وفي حديث نبوي شريف لقوله عليه السلام: موتوا قبل أن تموتوا. إذ أنّ الخاصّة – وهم العارفين- لهم موت قبل موت العموم. وحقيقة الموت هي أن يكون العارف ميّتا عن الأنا وعن النفس وشهواتها. فالشخصيات التي حضرت المأتم ومنها الطفل والمراهق والشاب والكهل فيها إشارة لجوارح حامل التابوت، منها التي صقلت وجاءت في صور مختلفة كالشاب أو الكهل، أمّا المراهق فهو إشارة إلى الشهوة الغريزية التي لا تنطفئ إلاّ بالرياضة الرّوحية بالخلوة والتأمّل، وكما قال أحد العارفين: خلوتها في جلوتها. فالخلوة لا تختص بمكان أو زمان. وقد جاء في الحديث القدسي قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن الله: ما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إلي ممّا افترضت عليه، ولا زال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فهذا مراد الكاتب وهو غاية تطهير الباطن. فصلاة الحاضرين في المأتم إشارة إلى صلاة الجوارح إذا تطهرت من الأوصاف البشريّة المذمومة وحلت محلّها الأوصاف الألوهيّة.
ثمّ يواصل حامل التابوت “هجرته” في الفصل 4 حتى يبلغ منتزها به حفل كبير، وهنا إشارة إلى اجتماع الرّوح بالقلب، فبحث عن مكان له في ذلك الحفل فلم يجده وهنا إشارة لطيفة إلى أنّ حامل التابوت لازال في مقام الفرق ولم يأذن له بعد في مقام جمع القلب مع الرّوح، وحين ابتعد عن الحفل، وجد نفسه في حلقة علم ليحضر درسا في الشريعة الإسلامية. ثمّ يغادر الحلقة وهنا إشارة إلى كسبه للشريعة ثم يصعد حامل التابوت إلى الصومعة وهي إشارة إلى القلب فيختلي بنفسه وهنا إشارة إلى تطهير قلبه. وفي وحدته، يظهر له صاحب العمامة وهو إمام الوقت وشيخ حامل التابوت ليعانقه، وهنا إشارة إلى مقام الفناء في الشيخ ومقدّمة للفناء في الله. ويبشّره صاحب العمامة بسرّ وهو معرفة أسرار اسمه وهنا يقصد معرفة ذاته، وهي ذات الله بعد أن يجمع قلبه بروحه وهو مقام الجمع. وحين يعانقه يفنيان معا مع طيران حمام أتى من كلّ مكان، وهنا إشارة إلى عروج روحه ولا يكون ذلك إلاّ عن طريق شيخ ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة إذ عرج إلى السماوات عن طريق سيدنا جبريل رغم أفضليته صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق.
وقد أبدع الكاتب في الفصل 9 في تصوير رحلة حامل التابوت مع حبيبته، وهي إشارة إلى الرّوح، حين بلغا قرية، طلب حامل التابوت من حبيبته الانتظار وهي إشارة للتحقق من الرّوح. وابن الفارض الصّوفي لمّا تحقّق من روحه قال:
يقولونَ لي صِفْهَا فأنتَ بوَصفها
خبيرٌ أَجَلْ عِندي بأوصافها عِلم
صفاءٌ ولا ماءٌ ولُطْفٌ ولا هَواً
ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جِسْمٌ
في القرية وجد حامل التابوت جامعا وهنا إشارة إلى القلب، خاطبه البوّاب وهو باب حضرة الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وباب الحضرة هو إمام الوقت في هذا العصر، وهو شيخ تربية له سند إلى سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم. طلب منه البوّاب الدخول لصلاة الجنازة على الميت وهنا يشير لموت نفسه فوجد حامل التابوت مصلّين يلبسون لباس الأبيض وهي إشارة إلى تحلّي جوارح حامل التابوت بالفضيلة بعد أن تخلّت عن رذائلها. ثمّ انتبه إلى أنّ التابوت فارغ ولا يوجد ميت وهنا إشارة إلى تطهير القلب من الشوائب الخسيسة وكلّ متع الدنيا. قال الله تعالى في سورة القصص، الآية 10: وأصبح فؤاد أم موسى فارغا. والقلب هو بيت الرب. تقدّم حامل التابوت للصلاة وكبّر وهنا إشارة إلى أنّ التكبير في الصلاة هو بمعنى تحققه عندما نفى الأنا أي وجوده فظهر له الله وقرأ الفاتحة أي أنّ صاحب التابوت فتح عليه بمعرفة الذات والصفات والأفعال فلا يرى إلاّ الله في أقواله وأفعاله. ولمّا بدأ قراءة الفاتحة، فإذا بالبوّاب – وهو مثلما أشرنا الشيخ العارف – يتكلّم بغير كلام القرآن وهنا إشارة إلى لغة المعنى وهي أسمى من لغة العبارة، وكأنّه يشير إلى حامل التابوت بالتدبّر في القرآن بالمعنى. قال الله تعالى في سورة محمّد، الآية 24: أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها. ولمّا غادر حامل التابوت الجامع والقرية وعاد إلى حيث ترك حبيبته لم يجدها لأنّ الرّوح خرجت من سجن النفس التي انصهرت هي والقلب في مقام الجمع.
يحط حامل التابوت رحاله في الفصل 14 من الرّواية بمقبرة وهنا إشارة إلى دفن نفسه في مقبرة للتغطية والظهور فيصير عندها أمر من الحنظل، فدفن الحبّة ينتج غرسا، كذلك الحكمة لا تنبت إلاّ في قلب كالأرض، أمّا إقامته بمسكن بالمقبرة فهي إشارة إلى تطهير القلب. وفي الحديث: المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء. وكذلك القلب إذا قويت عليه الخواطر واستحوذ عليه الحس مرض وربّما مات، ولا ينفعه إلاّ الحمية وهو اعتزال الناس واستعمال الدواء وهو الذكر المأذون من إمام الوقت، فإنّه سرعان ما يتعافى. إنّ أوّل مراحل علاج القلب هي إدراك المرض والعلة ولا يكون ذلك إلا بالفحص، يقول الحق جل جلاله في سورة الشعراء، الآيات 88 و89: يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. وإقامة حامل التابوت في المسكن المهجور أو الخربة هي إشارة إلى قلبه إذ أصبح خاليا من أمراض القلوب كالأنا وحب الدنيا وزينتها والغيرة من الآخرين والحسد وسوء الظن بالله سبحانه وتعالى وبعباده والنفاق والرياء والحقد على الآخرين وعدم الإحساس بالذنب عند ارتكاب المعاصي واليأس من الله سبحانه وتعالى وجحود القلب والقسوة. أمّا الأموات الذين كُتبت أسماؤهم على شواهد القبور أو رأى صورهم معلّقة في الخربة التي سكنها فهم الشخصيات التي تقمصّها وهي ترمز إلى الجوارح التي لم تصقل في الماضي، أمّا الأطر المعلّقة في الخربة ولا تحمل صورا فترمز إلى أعمال البشر ووجود الإخلاص فيها، فالإطار هو الرّوح وهنا إشارة إلى أنّ العبادة لا تكون إلاّ بالرّوح وإزالة الصورة أي الرياء وهنا إشارة الكاتب إلى ضرورة الإخلاص.
أمّا الأسئلة في الفصل 15 من الرّواية التي سألها حامل التابوت ابنه حين زاره في المقبرة فهي إشارة إلى القلب، مركز تجلّي الله، فحين سأله كيف صار العالم؟ فالقصد هنا كيف حالك أيها القلب مع الله؟ ثم سأل حامل التابوت ابنه: هل لا زالت تمطر؟ وهي إشارة إلى الإلهام الربّاني وهو وارد سماوي ينجلي في القلب بعد تصفيته من النجاسات المعنوية ثم سأله: هل لازالت الأشجار تثمر؟ والثمار نوعان: نوع بدون لب وهي إشارة للمعاني الكلية المنتزعة عن الجزئيات التي هي مدركات القلب، لكونها غير مادية معقولة صرفة مطابقة لجزئياتها مقوية للنفس لذيذة كالتين الذي لا نوى له بل هو لبّ كله مشتمل على حبات كالجزئيات التي هي في ضمن الكليات، أو فاكهة بلب كالزيتون أي المعاني الجزئية التي هي مدركات النفس شبيهة بالزيتون لكونها مادية معدّة للنفس لإدراك الكليات كالزيتون الذي له نوى وهو دابغ. وعن رمزيّة سؤال حامل التابوت ابنه: هل قابلت أتقياء؟ فيشترط فيهم عند أهل الفن المكلف وهو العاقل، حالة كونه حصلت له رؤية الحق وارتفع عنه الحجاب وأن يعرف الله في سائر المظاهر، أن يعرف الله بالصفات وبسائر التجليات. أمّا البلوغ، فهو أن يكون المكلف بالغا في معرفة الله بالشهود لا بالوهم ويكون مستغرقا في الذات.
أمّا ما أجاب به ابن حامل التابوت والده بأنّ ما يعتقده الناس أنّه ماء هو ليس إلاّ نار وما يعتقدونه أنّه نار ليس إلاّ ماء، فهنا إشارة إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات. والمعنى هنا: النار ترمز لنار البعد عن الله والغفلة، فإن غفل الإنسان صار إلى النار وبقي معه الحجاب، وأمّا الجنّة فهي ترمز إلى معرفة الله معنى وشهودا والجنّة حفّت بالمكاره بما تكرهه النفوس، والنفس تُنحر بالسكين المعنوي وشفرته هو الذكر المأذون من شيخ واصل موصل وهو إمام الوقت، قال الله تعالى في سورة الكوثر، الآية 2: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ.
وفي الختام، أعتذر لذوي الألباب عن التقصير الواقع في هذا النص، فإن وافق الصواب فالمنة لله العلي الكبير، وإلاّ فالعبد محل الخطأ والتقصير، وأسال الله أن ينظر إلينا بعين الرضا والصواب وأسال الله أن ينفع به من كتبه أو طالعه أو حصل شيئا منه أو سمعه أو عمل بما فيه وأن يكسوه جلباب القبول ويبلغ محصله كل مطلوب ومأمول بجاه سيّد الأنام مولانا محمّد الشفيع المقبول صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل المحبّة والوصول وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

 

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *